يشهد النظام الاقتصادى العالمى منذ أزمة الكساد عام 1928 صراعات عنيفة، وبرز بشكل واضح صراع الهيمنة والتنافس الجيوسياسى بين عدد من القوى الكبرى، من بينها الولاياتالمتحدةالأمريكيةوالصين، اللتان تستعدان لمواجهات خشنة قد تؤثر سلبا على مجمل نمو الاقتصاد العالمى وتهدد بشكل واضح نمو ظاهرة العولمة الكونية، وفى هذا الصدد تتبع الدولتين مجموعة من السياسات الحمائية التى تتناقض كليا مع مقررات التحرر الاقتصادى التى نودى بها فى مؤتمر برايتون ودوز 1944. وتسعى الولاياتالمتحدةالأمريكية للحد من إنجازات الصين الاقتصادية والتى باتت تهدد مكانة واشنطن كقوة اقتصادية وحيدة مهيمنة على مجمل النظام الاقتصادى والنقدى العالمى بعد الحرب العالمية الثانية. وتشير التقديرات الأولية أن من شأن هذا الصراع الأمريكى الصينى أن يؤدى الى انكماش بالاقتصادى العالمى يقدر بنحو 1.5 ٪ وبقيمة 1.4 ترليون دولار أمريكى على أساس سنوي. والجدير بالذكر أن وفى عام 2020، بلغ إجمالى تجارة السلع والخدمات بين البلدين، ما يقدر ب 615.2 مليار دولار، وبلغت الصادرات 164.9 مليار دولار، بينما بلغت الواردات 450.4 مليار دولار، وفق بيانات التجارة الأمريكية. ورغم التوترات السياسية والحظر التجارى والتكنولوجي، فإن البلدين يعتبران من أكبر الشركاء التجاريين. وتشير بيانات مصلحة الجمارك الصينية، إلى ارتفاع حجم التبادل التجارى بين البلدين فى عام 2021 بنسبة 28.7 ٪، ليصل إلى 755.64 مليار دولار.و تعتمد الولاياتالمتحدة بشكل مؤثر فى القطاع التكنولوجى على الصين من هواتف ذكية ومعدات خاصة وأجهزة الكمبيوتر وبطاريات الليثيوم أيون، على سبيل المثال. وتمارس أمريكا صراعها الاقتصادى مع الصين باستخدام مجموعة من القوانين والأدوات العقابية، شملت منع وصول تكنولوجيا مكونات الحاسب الآلى العملاق ومعدات صناعة الرقائق وتكنولوجيا أشباه الموصلات المتقدمة، وفرضت الولاياتالمتحدة قيود على بيع واستيراد معدات هواوى و«زد تى إي»، وشركات صينية أخرى، وتبنى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عام 2018 سياسات حمائية أكثر صرامة بفرض رسوم جمركية بقيمة 360 مليار دولار بغرض إعاقة النمو الاقتصادى الصيني، لتبدأ بذلك حرب تجارية، وردت الصين على الجمارك الأمريكية بالمثل لتبلغ حجم هذه الرسوم الجمركية المتبادلة مليارات الدولارات الأمريكية. وبلغت الرسوم الجمركية حوالى 36 مليار دولار، مما أدى إلى انخفاض الصادرات الصينية من المنتجات التى فرض عليها الجمارك الى الربع، واستفادت من هذه السياسات الجمركية عدد من الأطراف مثل المكسيك 3.5 مليار دولار والاتحاد الأوروبى 2.7 مليار دولار وفيتنام 2.6 مليار دولار وكوريا وكندا والهند ما بين 1-1.5 مليار دولار وبعض المنتجين الأمريكان بحوالى 14 مليار دولار. واستمرت سياسات إدارة جو بايدن على نفس النهج، وذلك عبر فرض حظر وعقوبات على شركات صينية، وخاصة فى قطاع التكنولوجيا، لا سيما أشباه الموصلات، وبذلك امتدت الحرب التجارية إلى حرب تجارية تكنولوجية عنيفة. وأصدرت حكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية قانونين غاية فى الأهمية مثل (قانون خفض التضخم) و(قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم) تشيس آكت. وطبقا لهذه القوانين رصدت مبالغ مالية ضخمة من بينها 53 مليار دولار لدعم صناعة أنتاج أشباه الموصلات على الأراضى الأمريكية، بالإضافة الى 430 مليار دولار لدعم الشركات المصنعة لبطاريات السيارات الكهربائية والألواح الشمسية شرط أن يتم هذا الإنتاج فى مصانع ومراكز أبحاث بالأراضى الأمريكية، ويهدف من هذه الإجراءات استبعاد الشركات الصينية من مجالات الاقتصاد الأخضر وخاصة مجالات البحث واستنباط التكنولوجيا النظيفة وتصميم وإنتاج وسائل توليد الطاقة الجديدة. هذه الأرصدة المالية التى رصدت لن تعوض الشركات الأمريكية عن خسائرها جراء فقدان أسواق عملاقة مثل الأسواق الصينية. وتوسع الولاياتالمتحدة الآن حربها الاقتصادية غير المحدودة على الصين، من خلال التعريفات الجمركية، وضوابط التصدير، والقيود المفروضة على الاستثمار الأجنبى ونقل التكنولوجيا. تهدد الحرب التجارية والتكنولوجية الراهنة بانهيار النظام الاقتصادى العالمى، وتؤكد فشل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية، وتعيد للأذهان مناخ السياسات الحمائية الذى ساد بعد أزمة الكساد العالمى والتى تسببت فى اندلاع الحرب العالمية الثانية، مما سوف يكون له آثار دراماتيكية على الاقتصاد العالمى وخاصة على الجزء الضعيف فى هذا النظام وهى بالتأكيد دول العالم النامي. ويواجه حلفاء الولاياتالمتحدةالأمريكية موقفا يصعب قبوله فى اتخاذ موقف داعم للولايات المتحدةالأمريكية فى صناعة من المتوقع أن يصل حجم مساهمتها إلى تريليون دولار بحلول العام 2030، وسوف تمثل الصين 40 ٪ منها تقريبًا. وفى هذا الإطار يمكن فهم طبيعة وأسباب أزمة تايوان والتى أدت الى تفاقم التوترات الجيوسياسية فى المحيط الهادي، فى إطار فهم أن تايوان تمثل 80 ٪ من حجم صناعة الرقائق المتقدمة فى العالم. وتشهد القارة الأفريقية جزء من هذه المواجهة الصينيةالأمريكية واحتواء النفوذ الصينى المتزايد، وخاصة فى البلدان الغنية بأنواع المعادن اللازمة لإنتاج التقنيات الخضراء المستقبلية ومصادر الطاقة. هذه السياسات والإجراءات الأمريكية، قد تنجح على المدى القصير، لكنّ الأمر يختلف على المدى الأبعد، فى ضوء ما يمثله تبادل الحظر الاقتصادى والتكنولوجى من تداعيات سلبية واسعة على جميع أطراف النظام الاقتصادى العالمى وفى المقدمة منها الصينوالولاياتالمتحدةالأمريكية د. نور ندا: أستاذ الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية والأستاذ الزائر بجامعة التمويل الروسية بموسكو