تجلت "ثقافة الشهادة" بأروع معانيها في عملية تصفية البؤرة الارهابية "بقرية عرب شركس" بمحافظة القليوبية مؤخرا والتي استشهد فيها اثنان من خبراء المفرقعات بسلاح المهندسين لينضم العميد مهندس ماجد أحمد صالح والعقيد مهندس ماجد أحمد شاكر لقافلة من شهداء هذا السلاح في "الحرب الجديدة-القديمة" على مصر. وهي حرب تجرى الآن بسلاح الإرهاب الخسيس وفيما تتردد كثيرا هذه الأيام مصطلحات مثل الحرب النفسية وحرب الرموز التي تتعرض لها مصر فإن هذه الحرب في جوهرها هي حرب "التكيف مع الأكاذيب" التي ترمي لتوهين دور مصر ومكانتها وتترصد خطى تقدمها وجهود نموها. وبذلك ينضم الشهيدان لقافلة الشهداء التي رفعت علم مصر عاليا في حرب العاشر من رمضان 1973 وجادت بالأرواح أثناء إقامة جسور العبور وفتح الثغرات في خط بارليف وتجريف الساتر الترابي وتفجير القنابل الزمنية التي كانت الطائرات المعادية تلقيها على ممرات المطارات المصرية. وفي كتاب "العسكرية المصرية فوق سيناء" يقدم الصحفي الراحل حمدي لطفي العديد من قصص الفداء للمهندسين العسكريين ويروي قصة الشهيد البطل "الخفرجي" ابن المنصورة الذي أبطل في يوم واحد عشرات من القنابل الزمنية فوق مطاراتنا وقواعد الصواريخ المضادة للطائرات. وينقل مؤلف الكتاب الراحل حمدي لطفي عن اللواء مهندس جمال الدين محمد على قوله إن "سلاح المهندسين في كل جيوش العالم بمثابة شرايين الدم في جسم الانسان تمد القلب والخلايا الحية بعنصر البقاء والنمو والحركة"، موضحا أنه في حرب رمضان الخالدة قدم هذا السلاح أشجع العطاء وجاد بعض أبطال السلاح بأرواحهم فداء للنصر "وصعدوا إلى رحاب الله وهم يصنعون دعائم الهجوم تحت قصف مكثف من طائرات العدو بقنابل الف رطل". وأكد اللواء مهندس جمال الدين محمد علي مدير سلاح المهندسين أيامئذ على أن دول حلفي الأطلنطي ووارسو معا أخذت بالأسلوب المصري في بناء دشم الطائرات وهو أسلوب مبتكر وغير مسبوق وأثبت صلابته وكفاءته في مواجهة اعتى أنواع القنابل. وأبطال وحدات ازالة القنابل من المهندسين قاموا بأعظم الأعمال خلال هذه الحرب المجيدة وأثناء حرب الاستنزاف وكانت معطياتهم تتميز بالابتكار والسيطرة الفنية على الحرب الإلكترونية المعادية فيما حق للصحفي الراحل حمدب لطفي أن يقول في هذا الكتاب: "سلام عليكم أيها المهندسون.. عقل ومستقبل مصر.. سلام على شموخكم وعلى بطولاتكم وعلى أغلى تضحياتكم وابتكاراتكم الهندسية التي أخذ عنها مهندسو أكبر جيوش العالم". وهذه الثقافة كانت زادا للرجال الذين خاضوا حرب السادس من أكتوبر ليكتبوا بدمائهم وأرواحهم النصر لأمتهم فيما واجه المهندسون العسكريون فوق ممرات المطارات قنابل تلقيها الطائرات المعادية يمكن أن تنفجر في أي لحظة تماما كما أنها تتجلى الآن في مواجهة الحرب الجديدة التي تتعرض لها مصر. ومن هنا أقسم المشير عبد الفتاح السيسي أمام عائلتي شهيدي القوات المسلحة اللذين راحا ضحية الإرهاب الأسود على استعداد رجال الجيش للموت من أجل الحفاظ على البلد وقال الكاتب عبد المحسن سلامة في صحيفة الأهرام إن هذا القسم "اعطى رسالة طمأنة لكل المواطنين على قوة الجيش وصلابته واستعداده لخوض معركة طويلة النفس مع الإرهابيين حتى يتم استئصال شأفتهم إلى غير رجعة". واعتبر الكاتب الصحفي صلاح منتصر أن "ترسانة الأسلحة والمتفجرات التي ضبطتها أجهزة الأمن في قرية شركس بمحافظة القليوبية تثير عدة تساؤلات" عن هؤلاء الذين وراء تلك الكميات الضخمة من الأسلحة فضلا عن عدد أفراد هذه الشبكة الإرهابية مشيرا إلى أن الإرهاب كان في طريقه إلى بدء مرحلة جديدة تستهدف مواقع البنية الرئيسية في البلاد. وكان مجلس الوزراء قد أشاد بما تحقق خلال عملية المداهمة في "عرب شركس" ووجه الشكر لرجال القوات المسلحة والشرطة "على تلك الضربة الاستباقية الناجحة التي جنبت البلاد أخطارا محدقة كانت تخطط لها تلك الخلية الارهابية خلال الفترة المقبلة". وفيما أكد أن "عقارب الساعة لا يمكن أن تعود للوراء" كان وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم قد وصف الإرهاب الذي يستهدف مصر حاليا بأنه "شرس" بينما تمكنت قوات الحماية المدنية من إبطال مفعول عبوتين ناسفتين بجامعة القاهرة حسبما كشف مصدر أمني في تصريح نشر أمس "الأحد". وإذا كانت مصر تواجه "حربا نفسية" فإن ثمة حاجة ثقافية لتحليل هذه الظاهرة والتعرف على بنيوية مقوماتها وعلاقاتها وآلية حركاتها ومتغيراتها حتى يمكن التعامل معها على النحو الذي يدرء شرورها. وهذه الحرب "الجديدة القديمة" تتلاعب برموز وأسماء ومسميات لها قدسيتها واحترامها الجليل في الضمير الجمعي للمصريين مثل "بيت المقدس" أو "رابعة العدوية" وهي لا تتورع عن توظيف التراث بصورة مشوهة وتوليد معان جديدة لهذه الرموز بما يتوافق مع أهدافها المعادية للكتلة الغالبة من المصريين. وحسب ما نشرته الصحف ووسائل الإعلام حول اعترافات "الإرهابيين الذين ألقي القبض عليهم خلال العملية الأمنية في عرب شركس" فان القيادات التي قامت بتدريبهم ومنهم "قائد مجموعة بيت المقدس" اقتعوهم بأن الموت في سبيل تنفيذ تلك العمليات هو استشهاد في سبيل الله وانهم يرتكبون تلك الجرائم لنصرة الدين وكانوا يتلقون أموالا لتنفيذها ومكافآت بعد كل عملية إرهابية يقومون بها. ووفقا لهذه التقارير فقد كشفت التحقيقات عن "مخطط إرهابي لتفجير مقار ثلاث وزارات وعدد من مديريات الأمن وبعض المنشآت الحيوية" فيما يقترن هذا المخطط الارهابي بجماعة بيت المقدس التكفيرية التي تسفك الدم الطاهر وتشن هجمات غادرة مستهدفة جند مصر لتتبدى طبيعة حرب الرموز والسعي الحثيث لتزوير الدلالات والتلاعب للتأثير على اللاوعي. وفيما يسعى أصحاب هذا المخطط لبث العنف في الجامعات وتعطيل الدراسة ولاحظ معلقون أن المظاهرات وأعمال العنف الحالية في الجامعات لتحقيق مكاسب سياسية لجماعة بعينها أبعد ما تكون عن المظاهرات الطلابية التي بقت في الذاكرة الوطنية المصرية حيث كانت هذه المظاهرات تنطلق من أهداف وطنية مثل الدعوة للاستقلال ورحيل المستعمر أو التعجيل بحرب تحرير سيناء من دنس الاحتلال فيما ضمت كل ألوان الطيف السياسي المصري والجماعة الوطنية. فهي مظاهرات عبرت عن الضمير الوطني المصري في لحظات مفصلية واستحقت الخلود فيلا عمال إبداعية مثل قصيدة "الكعكة الحجرية" للشاعر الراحل أمل دنقل وكانت بريئة مما يحدث في المظاهرات التي ينظمها أنصار جماعة الإخوان بالجامعات من تخريب وعنف وتجاوزات مشينة وقطع للطرق وترويع للآمنين ناهيك عن إهانة رموز جامعية. ولعل مغالطات حرب الرموز تتجلى في هذه المظاهرات التي يحاول منظموها الإيحاء بأنها امتداد للتراث الاحتجاجي الوطني لطلاب مصر في حين انها ابعد ماتكون في الواقع والجوهر عن هذا التراث النبيل والمضيء بقدر ما تعبر عن "إشكالية ثقافية" لدى هذه الجماعة التي باتت تنتهج أسلوب "الاستعارات الخاطئة" و"القياس المضلل" وتكفي المقارنة على الصعيد الرمزي بين مظاهرات تحت علم مصر ومن أجل رفع علم مصر على سيناء وبين مظاهرات لم تتورع عن حرق علم مصر ومحاولة تدمير المقدرات المصرية!. فالجماعة المأزومة تحاول أن تتخطى أزمتها بالاستعارات الخاطئة وأن تفرض على الواقع ما لا ينتمي لتاريخه الحق حتى بات من الحق وصف ممارساتها بأنها "لا تاريخية" حيث "التفكير المتعسف والخارج على السياق لفرض تصور جاهز على واقع لا يمكنه قبول هذا التصور". وإذا كان تكرار الأصل ممجوج فإن الجماعة فشلت حتى في هذا التكرار لأنها تعمد لاستعارات خاطئة من الماضي كما هو الحال في محاولتها استعارة مظاهرات الحركة الوطنية الطلابية المصرية في سنوات خلت ولحظات كانت تتطلب هذه المظاهرات تعبيرا عن الضمير الوطني وإشهارا لرفض الهزيمة والتصميم على خوض حرب التحرير واستعادة الأرض المحتلة وكانت "مظاهرات للدفاع عن مصر لا لحرق مصر". ويبدو واضحا للمراقب للمشهد المصري أن الحرب النفسية بما تشمله من "حرب الرموز" تتصاعد كلما تحقق تقدم ما على طريق تنفيذ خريطة الطريق مثل الاستعداد للانتخابات الرئاسية. فيما لا تخفى رمزية ودلالات مصطلحات تروجها الجماعة الإرهابية في سياق الحرب النفسية وحرب الرموز فإن التنظير الثقافي يصل إلى استحالة الفصل بين الرموز والواقع اليومي للإنسان في كل مكان وزمان فيما تتطلب العلاقة بين الواقع والرموز تأملات عميقة في سياق دراسات سوسيولوجية على مستوى أي مجتمع وخصوصيته الثقافية ومخيلته الجمعية. وإذا كان الحديث عن حرب الرموز فليعلم هؤلاء الذين يشنون حربهم الجديدة القديمة على مصر بأن "المصري يشبه طائر الفينيق الذي ينبعث دوما من رماد الموت لآفاق الحياة المتجددة".. وليعلم الذين اختاروا اسم "بيت المقدس" لجماعتهم التكفيرية التي بغت في الأرض وسفكت الدماء الطاهرة أن القدس باقية وستبقى في أعز مكان ومكانة بعقل مصر وقلبها، الرموز المزورة لن تنجح في تزييف شكل الوطن والعلامة الصفراء لن تموه التراب المقدس أو تغتال الطريق وتحيل مصر قبرا وزخات عذاب وجوع وحبات دموع!..ستنتصر الحقيقة.. ستنتصر مصر رغم شراسة حرب الرموز وكثافة الحرب النفسية.. ستنتصر مصر "بثقافة الشهادة" والشهداء الذين منحوا الوطن أغلى ما في الحياة لكي تبقى لنا الحياة.. منحوه أرواحهم فسلام على هؤلاء الرجال الباقين أبدا في ذاكرة الأجيال.. "من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً".