النظرة الاستعمارية لكنز توت عنخ آمون لم يدر فى خلد أى من كارتر وكارنارفون أن الكنز الذهبى سيفلت من أيديهم، ويبقى للأبد فى مصر. ولذلك كان أول ما فعله اللورد كارنارفون ودون حتى مناقشته مع كارتر هو أن منح الحق الحصرى للإعلان ونشر صور الكشف لجريدة لندن تايمز وذلك فى 9 يناير 1923. فى 4 نوفمبر من عام 1922 يتم اكتشاف مقبرة الملك توت عنخ أمون بوادى الملوك بواسطة هيوارد كارتر وبتمويل من اللورد كارنارفون تعرضنا فى المقال السابق لنشأة هيوارد كارتر وكيف وصل إلى مصر وعمل بالآثار وهو لم يحصل فى حياته على أى تعليم نظامى، ومن وجهة النظر الإنجليزية كان إنسان غير متعلم من بيئة رقيقة الحال، وهو من وجهة نظرنا استطاع كارتر أن يعلم نفسه بنفسه، أو كما قال هو عن نفسه «علمتنى الحياة». وقد توقفنا عند يوم استقالته من منصبه فى مصلحة الآثار المصرية فى 4 نوفمبر عام 1905 بعد معركته مع الفرنسيين السكارى فى سقارة. بعدها عاش كارتر أياما صعبة وبدلًا من أن يعود ألى بلده إنجلترا استمر فى مصر بل وعاد إلى الأقصر ليسكن ببيت أحد الفلاحين بالإيجار ليقتصد فى النفقات بعد أن ترك وظيفته وعاد لرسم وبيع اللوحات مرة أخرى. والحقيقة التى لا مناص من ذكرها أن كارتر كان يعلم تمامًا أن مصر وآثارها هى التى جعلت منه إنسانا له قيمة فى الحياة ولو تركها وعاد إلى بلده فماذا كان بوسعه أن يعمل سوى الرسم وهو لم يكن حتى بمهارة أبيه أو أخيه وليام كارتر؟! أثناء إقامته بالأقصر تعرف كارتر على تيودور ديفيز ذلك الثرى الأمريكى المغامر والذى عشق الآثار المصرية وحصل على حق الحفر فى وادى الملوك ومناطق أخرى. وعمل تحت إمرته كثير من الأثريين الأجانب وكان من بينهم كارتر لكن لم يعجب أى منهما بالآخر لاختلاف طباعهما. لم يمر كثير من الوقت ويلتقى كل من كارتر واللورد الإنجليزى كارنارفون ليبدأ الفصل الحاسم فى حياة كل منهما والذى خلد اسميهما فى التاريخ بوصفهما مكتشف وممول الكشف عن كنوز توت عنخ أمون. ولكن وقبل الحديث عن الكشف هناك واقعة استوقفتنى كثيرًا وهو خطاب من هيوارد كارتر عندما كان كبيرًا للمفتشين الى السيدة إمهارست التى ساعدته فى بداية حياته كما ذكرنا بالمقال السابق. وفى الخطاب يطلب منها كارتر أن تخبر اللورد إمهارست أن الحكومة المصرية تضع ثقتها فيه وكلفته بوضع القوانين الخاصة بحماية الآثار؟! وقد أكد لها كارتر أن هذا المطلب سرى ولا يجب أن يعلن؟! وهنا أؤكد أنه لا دليل على الإطلاق أن ذلك حدث! ومعروف أن المقترحات بالقوانين الخاصة بالآثار كانت تأتى من مصلحة الآثار ومدرائها الفرنسيين إلى مجلس النواب المصرى، وليس هناك سبب ليكون الأمر سرًا ولو أن كارتر كان يفهم القانون المصرى الخاص بالآثار لما طالب وحارب من أجل أخذ كنوز توت عنخ أمون الى إنجلترا؟ فهل كان كارتر يكذب على السيدة إمهارست؟ أعتقد نعم! فى 4 نوفمبر من عام 1922 يتم اكتشاف مقبرة الملك توت عنخ أمون بوادى الملوك بواسطة هيوارد كارتر وبتمويل من اللورد كارنارفون. كان من المقرر وفق الاتفاق بين اللورد الإنجليزى كارنارفون وكارتر أن يكون موسم 1922 هو الأخير بعد أربعة مواسم سابقة لم تحقق أى نتائج تعوض ما تم إنفاقه على الحفائر من وجهة نظر لورد كارنارفون الذى كان يمنى نفسه بالعثور على مقبرة ملكية جديدة بها بعض من مقتنياتها التى يمكن له أخذها أو اقتسامها مع الحكومة المصرية والاحتفاظ بها أو بيعها لبعض المتاحف العالمية وتحقيق بعض المال الذى يمكنه من استكمال مغامراته الكشفية فى مصر الى جانب تخليد اسم عائلته المرموقة فى بريطانيا. لكن ماذا عن الظروف السياسية لمصر والعالم فى تلك الأثناء وكيف أدت فى النهاية الى أن تستطيع مصر وهى دولة تحت نفوذ وسيطرة بريطانيا الإحتفاظ بكنوز مقبرة توت عنخ أمون؟ فى الحقيقة حاول الكثيرون، ومعظمهم من الكتاب الأجانب، التعرض الى هذا الجانب غير المعروف ولكن غلبت على فهمهم للموضوع الشائك ثقافتهم الأجنبية، الى جانب أن كثيرًا من الأحداث توارت وتم إهمالها بفعل الزمن والأحداث الأخرى التى إعتبرت فى حينها الأهم والأكثر تأثيرًا! وكان دائما بريق الذهب فى كنز توت عنخ أمون هو المسيطر والغالب. ولكن ونحن نقترب من الإحتفال بمرور 100 عام على الكشف المثير لمقبرة توت عنخ أمون أصبح من الضرورى إعادة إحياء تلك الجوانب وتسليط الضوء عليها لكى تعرف الأجيال القادمة السر وراء احتفاظ مصر بأهم كنز فى تاريخها – كنز توت عنخ أمون. فى 18 ديسمبر 1914 أعلنت بريطانيا فرض الحماية البريطانية على مصر وإنهاء سيطرة الإمبراطورية العثمانية على مصر، وأصبحت مصر بعد الإعلان البريطانى سلطنة بعد أن كانت ولاية عثمانية. كان هذا الإعلان بعد أشهر قليلة من بداية الحرب العالمية الأولى فى يوليو 1914، والتى وقفت فيها إنجلترا ودول أخرى ضد الإمبراطورية العثمانية والنمسا والمانيا. فى 11 نوفمبر 1918 انتهت فعليا الحرب العالمية الأولى بانتصار انجلترا وهزيمة الدولة العثمانية. شهد العام 1918 عودة بعض مظاهر الحياة والعمل الى طبيعتها ومنها عودة البعثات الأجنبية الى العمل مرة أخرى فى مصر بل واستلام بيير لاكو الفرنسى المعين لرئاسة مصلحة الأثار منذ 1914 لمنصبه فعليا فى 1918 أى بعد مرور أربع سنوات على تعيينه فى المنصب؟ أيضًا بدأت السياحة تعود شيئًا فشيئا الى مصر وبالتالى عاد الإهتمام بأثار الفراعنة مرة أخرى. بدأ أيضا فى عام 1918 بعد إنتهاء الحرب هيوارد كارتر واللورد كارنارفون فى البحث عن كشف جديد بوادى الملوك يخلد أسميهما فى التاريخ. وفى 28 فبراير عام 1922 أعلنت بريطانيا أيضًا ومن جانب واحد الغاء الحماية البريطانية على مصر واعترفت بمصر دولة ذات سيادة وإن احتفظت بريطانيا ببعض ما أسمته حقوقا ومنها ادارة الملاحة بقناة السويس لحماية مصالحها فى مستعمراتها وكذلك حماية الأقليات الأجنبية فى مصر وهو الإعلان الذى رفضه المصريون واستمروا فى نضالهم ضد انجلترا للحصول على استقلالهم التام. وبموجب هذا الإعلان تتحول مصر من سلطنة الى مملكة تحت اسم المملكة المصرية. فى الرابع من نوفمبر 1922 يتم أخيرا الكشف عن مقبرة توت عنخ أمون ويظن كل من هيوارد كارتر ولورد كارنارفون أن القادم هو فقط سنوات مجد وشهرة وثروة. ولكن كانت كثير من الإعتبارات تغيب عنهما منها أن مصر قد خرجت بالفعل من وطأة الحماية البريطانية بموجد إعلان فبراير 1922 أى قبل أقل من تسعة أشهر من الكشف عن المقبرة، وبالتالى فإن وضعهما كإنجليزيين لن يمنحهما السلطة الكافية للخروج بالكنز من مصر. كذلك غاب عن كارتر أن بيير لاكو لن يقبل منه اسلوبه المتعجرف فى التعامل مع كل من المسئولين المصريين والفرنسيين وأن بيير لاكو لحسن الحظ هو من كان على رأس مصلحة الأثار وقد وضع بنفسه تعديلات عمل البعثات الأجنبية فى 1918 وقصرها فقط على البعثات العلمية التابعة لمؤسسات وأكاديميات علمية وأن عمل كارتر وكارنارفون إنما كان يتم بناء على حق التصريح الذى كانا قد حصلا عليه من قبل سن هذة التعديلات والتى لم تطبق بأثر رجعى. كذلك وضع لاكو تعديلات تتيح للمتحف المصرى الإحتفاظ بما أسماه الأثار الفريدة والكنوز المتميزة وعدم اقتسامها مع البعثات المكتشفة. لم يدر فى خلد أى من كارتر وكارنارفون أن الكنز الذهبى سيفلت من أيديهم، ويبقى للأبد فى مصر. ولذلك كان أول ما فعله اللورد كارنارفون ودون حتى مناقشته مع كارتر هو أن منح الحق الحصرى للإعلان ونشر صور الكشف لجريدة لندن تايمز وذلك فى 9 يناير 1923. وقام باستلام مبلغ خمسة الاف جنيه استرلينى نظير التوقيع على العقد وقد رفض تضمين عمل الأفلام فى هذا العقد منتظرًا لما سوف تعرضه عليه هوليود القادمة وبقوة بعد الحرب العالمية الأولى. وبالطبع لم يفكر اللورد سوى فى مصلحته الشخصية ودون أى إعتبار أن المقبرة فى مصر ولملك مصرى وأن فى مصر صحافة ومثقفين وكتاب لن يرحموه هو والمتغطرس هيوارد كارتر الذى كتب عنه مساعدوه مثل أرثر ويجال أنه كان يفتقد لأبسط قواعد الدبلوماسية فى التعامل مع الأخرين. مع بداية النصف الثانى من الموسم الأول للكشف فى فبراير 1923 يفاجأ الجميع بموضوع الحق الحصرى لجريدة لندن تايمز ويبدأ كل من كارتر واللورد فى الإعداد للتخطيط لإخراج الكنز من المقبرة ولكن الى أين؟ تدور المناقشات حول مصير الكنز بين المكتشف الإنجليزى وبين رئيس مصلحة الأثار الذى يفاجئ كارتر بأن الكنز تنطبق عليه شروط عدم الخروج من مصر ويكون هذا التصريح بداية لفتيل اشتعل ولن يتم إطفائه الا بعد مرور سنوات من هذا التاريخ. لم يصدق اللورد كارنارفون فكرة عدم نيله أى شئ من الكنز وظن أنها مجرد مزحة فرنسية سخيفة، لكنه سرعان ما تكشفت له الأمور وبدأ هو وكارتر فى محاولة التأكيد أن المقبرة قد تم نهبها فى الماضى وانها غير كاملة وتنطبق عليها شروط القسمة متجاهلين أن لاكو كان قد غير كثيرًا من تلك الشروط وجعل أى أثر فريد من حق المتحف المصرى وحده. زاهي حواس بدأت الضغوط على لاكو من كل جانب أولا الصحافة المصرية الكارهة للوجود الإنجليزى ولغرور كارتر تهاجم الحكومة المصرية لتركها الكنز فى يد المكتشف الإنجليزى دون رقيب، وكذلك كل علماء الأثار الحاقدين على كارتر وكشفه للمقبرة لا يريدون له أن ينعم بهذا الكنز. ومن ناحية أخرى الصحافة الإنجليزية وخاصة لندن تايمز والساسة والمتحف البريطانى يضغطون فى الإتجاه المعاكس والجميع ينتظر يوم وصول الكنز الى قلب لندن مثلما جاءت من قبله كنوز أخرى من المستعمرات البريطانية لا سيما الهند. فماذا حدث بعد ذلك؟ هذا ما سنعرفه فى المقال القادم بإذن الله
معلومات عن الكاتب د. زاهى حواس.. عالم الآثار والوزير السابق للآثار، مشهور بالكثير من الاكتشافات الحديثة. يعرفه العالم كله حيث يلقى المحاضرات فى دول عديدة كما يكتب مقالات أسبوعية فى العديد من الصحف والمجلات. له الكثير من المؤلفات التى تتناول علم المصريات.. يأخذنا، فى رحلة عبر الزمن، يحكى لنا فيها قصة اكتشاف مقبرة الفرعون الذهبى فى أربع مقالات، نشرنا المقال الأول فى عدد الإثنين الماضى وننشر المقال الثانى فى هذا العدد.