لم يكن "البابا شنودة" مجرد كاهن في كنيسة، أو راهب في دير، أو حتى بطريرك للكرازة المرقسية لأكثر من 40 عامًا، لكن كان "نظير جيد رفائيل"، إلهامًا للأقباط المصريين، المُعلم والقائد والقديس والراهب واليتيم والواعظ والسياسي المُحنك. كان قداسة "البابا شنودة" الراحل من أبرز الشخصيات الدينية القبطية، انشغالا بالسياسية، ويعلم كيف ومتى يعارض، وعلى من يطلق رصاص كلماته، التي كان ينتظرها محبوه من أسبوع لآخر، ومتى يغضب ويقرر الاعتكاف والصوم، وهو ما أثار غضب الرئيس الراحل أنور السادات، وازداد الأمر بينهما اشتعالا، خاصة في الآونة الأخيرة قبيل اغتيال الأخير. كان ل "شنودة" مواقف شهيرة مع رؤساء مصر الراحلين والسابقين، اتسمت علاقته في مجملها بالود مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، واتسمت بالصدام مع الرئيس الراحل أنور السادات، فيما اتسمت علاقته بالرئيس الأسبق حسني مبارك، بمبدأ المصالح المشتركة. عقب وفاة البابا كيرلس السادس- الذي كانت له علاقة صداقة وطيدة بعبدالناصر- تولى المقعد البابوي، "شنودة الثالث"، ورغم أنه لم تكن هناك علاقة وثيقة بين عبدالناصر وشنودة، إلا إن الأخير أثنى على مواقف ناصر، تجاه الأقباط، حيث قال: إن الموقف الرجولي الذي وقفه الرئيس جمال عبدالناصر تجاه بناء الكاتدرائية لن ينسى. فقد أعطى ناصر تصريحا لبناء الكاتدرائية الكبرى، وحضر حفل وضع الأساس فيها ثم حضر حفل افتتاحها وألقى كلمة في صحنها، وتبرع بمبلغ 100 ألف جنيه عام 1967، وكلف الرئيس عبدالناصر إحدى شركات القطاع العام بأن تقوم بعمليات بناء الكنيسة الكبرى، وأسرعت الشركة في بنائها بحيث انتهى الهيكل الخراساني في سنة واحدة على هذا الحجم الضخم، والديون التي بقيت صدر قرار بالتنازل عنها في عهد عبدالناصر. العلاقة الطيبة والمودة، التي كانت تجمع بين عبدالناصر والبابا كيرلس بطريرك الأقباط وقتها، انعكست على شنودة، التلميذ النجيب للبابا كيرلس، الذي كان دائما يشيد بعبدالناصر وإنجازاته، وسماحته تجاه الأقباط. ولكن عقب تولي "شنودة" منصبه البابوي، وارتدائه ملابسه الكهنوتية المقدسة، اختلفت مقاييس المعادلة السياسية، بين رأس الدولة المصرية، ورأس الكنيسة الأرثوذكسية الكبرى. الأزمة بدأت عندما تعامل "البابا شنودة" مع السادات بمنطق "الند"، فإذا كان السادات رأس الدولة المصرية، فمنصب "البابا" طبقا لتفسير "شنودة" لا يقل بحال من الأحوال، عن منصب الرئيس، وإذا كان الرئيس زعيما سياسيا فإن البابا زعيما روحيا ودينيًا. والنتيجة.. صدامات دبت بين السادات وشنودة، وهنا قال شنودة في تصريح سابق له: كنا نتبادل الدعابة والمزاح خلال لقاءاتنا، وفي النهاية قلبها جد. في مايو عام 1971 بارك البابا ثورة السادات، على مراكز القوى في البلاد، والتي عرفت إعلاميًا فيما بعد ب" ثورة التصحيح". لكن تعددت الأسباب والخلاف واحد، فعندما قرر الرئيس الراحل، الاستعانة بشباب الإخوان والجماعات الإسلامية، للقضاء على مد التيار الشيوعي والناصري في مصر والجامعات، بدأ الخلاف يتسلل من هذا الطريق، حيث أدى إلى فتح "طريق" للصراع بين القساوسة والمشايخ، لتكون حقبة السبعينيات هي ذروة "الصراع السياسي- الديني". لكن تصاعدت الأزمة بينهما، في أحداث الخانكة عام 1972، وهي المرة الأولى التي تحرك فيها الأقباط في مظاهرة من 400 شخصا يرتدون 100 منهم ملابس دينية كهنوتية وهو ما أغضب السادات الذي قال: "هو شنودة بيتحداني؟؟". وتوترت الأجواء بصورة أكبر بين البابا شنودة والسادات عقب أحداث 1977، إثر إصدار البيان الرسمي الأول الذي يعبر عن وصول العلاقة بين الكنيسة والدولة إلى "طريق مسدود"، وقال فيه: إن الأقباط يمثلون «أقدم وأعرق سلالة» في الشعب المصري، ثم عرج إلى حرية العقيدة الدينية، وممارسة الشعائر الدينية، وحماية الأسرة والزواج المسيحي والمساواة وتكافؤ الفرص وتمثيل المسيحيين في الهيئات النيابية والتحذير من الاتجاهات المتطرفة، وطالب البيان بإلغاء مشروع الردة واستبعاد التفكير في تطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين. وما زاد غضب السادات، هو التوصيات التنفيذية لمؤتمر المجمع المقدس برئاسة البابا، حيث طالب الأقباط بالصوم لثلاثة أيام من "31 يناير إلى 2 فبراير 1977" بعد ذلك طالب البابا الرئيس السادات أكثر من مرة بأن يجلس معه بوصفه ممثلًا عن الأقباط قائلًا: أليس الأقباط قطاعًا في الدولة؟! وتوالت الخلافات بينهما، وتدخل أكثر من مرة عدد من المقربين للسادات، كوساطة بينهما، وكان الوسيط بينهما الكاتب الصحفي القبطي موسى صبري، ولكنه لم يفلح في مهمته، لأن "البابا" اعتبر أنه يدافع عن السادات دائمًا، ولا يعترف بأخطائه. ومع حلول عام 1981، تصاعدت الخلافات السياسية، وكان آخرها، هو زيارة الرئيس السادات إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، واستقبله هناك وفد من أقباط المهجر، علم السادات وقتها، أن تلك المظاهرة كانت بالاتفاق مع شنودة، لإحراج السادات أمام الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وتم الترتيب لاعتقالات سبتمبر، وبالفعل أعدت القوائم بأسماء الكتاب المعارضين للسادات ولاتفاقية كامب ديفيد، وكان من أبرز الشخصيات، هو اسم "البابا شنودة"، حيث تم تحديد إقامته في دير وادي النطرون بسانت كاترين، وعزله من مصبه البابوي، وتشكيل لجنة خماسية للقيام بالمهام البابوية. وعقب اغتيال السادات، وتعيين مبارك رئيسًا للجمهورية، تم إلغاء تحديد إقامة شنودة، كما صدر قرار من الرئيس الأسبق مبارك عام 1985 بإعادة تعيين الأنبا شنودة بطريركًا للأقباط. وقد اتسمت علاقته مع مبارك، بالود المتبادل في المناسبات الرسمية والدينية، ولكن في الكواليس، اتسمت بالمصالح المشتركة سواء كانت سياسية أو دينية. في ثورة يناير، رفض شنودة مشاركة شباب الأقباط في مظاهرات 25 يناير 2011، وظل يدعم موقف مبارك، حتى حانت لحظة التنحي الشهيرة. ولم تختلف علاقة البابا بالمجلس العسكري الذي أدار شئون البلاد عن علاقته بمبارك، سرعان ما أعلن البابا تأييده للمجلس في نهاية فبراير 2011، وتمنى لهم التوفيق في حكم مصر، واستقبل أعضاء المجلس العسكري بالمقر البابوي أكثر من مرة، كما التقى المشير حسين طنطاوي مرتين، وحرص أعضاء المجلس العسكري على حضور قداس أعياد القيامة وأعياد الميلاد المجيد، إلى أن حانت لحظة الخلاف، والتي تعامل فيها البابا شنودة أيضًا بحكمة، وذلك عقب أحداث ماسبيرو، والتي خلقت توترًا بين الكنيسة المصرية، وبين الحكام الجدد، وعندما حضر المجلس العسكري لتقديم التهنئة في أعياد عيد الميلاد، قبل وصول مرسي لسدة الحكم، حاول شباب الأقباط، الهتاف ضد أعضاء المجلس وطردهم من الكنيسة، إلا أن "شنودة"، رفض ذلك الخطاب وقال: إن الدين المسيحي دين محبة وسلام، وأيام قليلة تمر ليودع القديس الكنيسة والحياه للأبد، تاركا تاريخا طويلا.