كنت لا أزال ألملم أوراقي المبعثرة في أركان الغرفة.. وما زال حبر كلماتي يقطر دونما توقف.. حين اخترق سمعي صوت منبعث من مكان سحيق، وكأنه دوي هائل مزّق رهبة السكون، فنهضت من فوري، وتوجهت إلى شرفتي الصماء، استرق السمع عَلِّي اغترفُ بعضًا من المجهول.. لقد بدأت الذبذبات تصبح مألوفة أكثر.. إنه صوت بشري.. بل إنه أنثوي أيضًا.. كانت تطلق صرخات مدوية تبعث الرعشة في الأوصال، وصدى كلماتها تتردد في أذني: أي ذنب اقترفوا.. أيها الوحوش.. يا من تجردتم من إنسانيتكم، قاتلكم الله. كلمات أسمعت من به صمم.. أتراني أهذي، أم أنه كابوس طال مداه؟ لا.. إنها الحقيقة.. هو واقع مرير استفاقت عليه جل البلدة. هرولتُ ارتقي درجات السلم حتى وصلتُ باب بيتي.. ولم أتوانى عن السير قدما صوب الصوت المريع.. تابعت المسير إلى أن وجدتني أمام بيت كباقي البيوت.. حديقته غناء.. في ثناياه بقايا الضحكات، وأرجوحة تحاكي ليالي السمر التي جمعت أفراد تلك العائلة، وبلبل صداح يعتلي النافذة غير آبه بالعويل. وما زالت الصرخات مدوية.. وحشود من البشر يتزاحمون.. دونما حراك، وكأن لسان حالهم يقول لقد وقعت الواقعة، ولم يعد بإمكاننا فعل شيء، إلا أنني لم أكن قد أدركت بعد ما يجري، فقررت المضي قدمًا حتى أسبر أغوار هذا الحدث الجلل.. ارتقيتُ السلم في توجس، وبشق الأنفس، بفعل الجدار البشري الهائل الذي يُغشي المكان.. وعندما وصلت المكان المرجو.. وقعت عيناي على المحظور.. فتسمرت مكاني ورعشة تعتريني، من أخمص قدمي حتى أعالي الرأس. كان المنظر مزلزلاً، مريبًا يحطم الأفئدة، ويبعث النيران في العروق.. جثث هامدة تتناثر على الثرى، عائلة جُردت من دفئها، وسحقت معالمها.. رصاص غادر استقر بجوف الأب، واخترق جسد الأبناء الغض.. وحطم فؤاد امرأة في العقد الرابع من عمرها.. ووحوش بشرية لاذت بفعلتها؛ لتستنشق عبق الحرية المحرم عليها. أي موت رهيب حظيت به هذه العائلة!!؟؟ ألم تكن البارحة ضحكاتهم تملأ الأجواء، ألم يخططوا لنزهة قريبة ويرتبوا للكثير من الأمور التي تنتظرهم.. أهي نهاية لكل آمالهم وأحلامهم؟!! من ذا الذي يحق له أن يضع حدًّا لطموح وحياة وأنفاس عائلة بأسرها.. وينول الحرية. في تلك الأثناء.. بدأت الدماء تغلي في عروقي.. ودونما دراية مني ساقتني قدماي وسط جموع غفيرة.. نشق عباب المدينة نصرخ بدوي فاق ذلك العويل الشاحب...تهز صرخاتنا أفئدة تقبع في غياهب الظلم.. تنتظر مصيرًا عادلاً سيجتثها من ظلمتها المختبئة فيها، ويزج بها في زنازين القتلة والمجرمين.. لترتاح أرواح ما زالت تحوم فوق المدينة، تطالبنا بالحراك، تثنينا عن الخمول.. فهلا استفقتم لنعيد أنسام الحياة ونبضه لبيت سكنته الأرواح الغاضبة وبقايا الأجساد الحزينة؟.