المرء يمكنه تحمل ألم في قلبه، أو ربما ضوضاء تخترق عقله، لكن عندما تتكاثر الأعباء على المرء، تعييه، بل تنهيه، يظل يبحث عن قشة تنجيه مما انزلقت إليه قدماه، لكن عبثا ما يحدث، يتخبط في الحياة كالذي مسه جن أو جنون، لا هو يقوى على البوح، ولا تعينه قدماه على التقدم أو التراجع، فقط يمضي حيثما أرادت به الأقدار. لم نخدع أنفسنا؟! لم نظل نردد أن الحبَ رائعٌ، وأن التجاربَ القاسية تجعلنا أقوياء، نكذب حينما نصرح للعالم أننا تعافينا، بالله كيف تعافيت ووسادتك لا تزال أثر دموعك عالقة بها، الأنفاس التي تكتمها حتى لا يفضحها سكون الليل، الهاتف الذي تتردد عليه بحجة الملل، أو رؤية التوقيت، الأماكن التي تداوم على المرور بها بحجة أنها فقط مفضلة، هي مفضلة لأن أحدهم كان بها يومًا وأنت تأتيها أملًا في صدفة عابرة تجمعكما، أنت تتعافى أمام الناس فقط، والليل يفضح ما تكنه، لو تعلقت بعصفورٍ وخرج من قفصه يومًا ولم يعد، ستظل تفتقده، فكيف بشخصٍ جمعتكما الأيام، وشهدت على خصامكما وغرامكما الأماكن، إننا لا نتعافى بين ليلة وضحاها، أساسًا أنت لست مجبرًا على التعافي عشية اليوم الثاني للفراق، خشية لوم اللائمين، ونشرات النصح التي يغرقك بها من حولك، ولا حتى بحاجة للمواساة والشفقة، أنت بحاجة إلى الانهيار، لتجسو على ركبتيك وتقبض بشدة على قلبك، وتترك لجام عينيك، اجعلها تفيض بكل ما تحويه، تألم، تألم بعمق، اصعد على مرتفع واصرخ إذا شئت حتى ينقطع صوتك، اخلع عنك قبعة القوة المزيفة الذي تعتمرها، تأوه ولا تعر انتباهًا لمن يلومك، جالس وحدتك، اعتزل الجميع إن شئت، من قال إنه بمجرد الفراق لا يجوز الحنين، يمكن لقلبك أن يحن- حتى إن كان حبيبك وغدًا- كما يجوز أن تَذكُره بأبشع الأوصاف في الوقت ذاته، عاتب صوره أو حتى مزقها لا تدع مثقال ذرة من ألم في داخلك، أفرغها جميعها، واسمح لنفسك بالتنفس مما يثقلك... الآن أخبرني كيف لمن يحمل في صدره كل تلك المشاعر المتناقضة في الوقت ذاته أن يتعافى، أو يُجبَر على تمثيل مسرحية سخيفة حول سرعة تعافيه، المرء حينما تنزف يده يتطلب شفاء جرحها واندماله أيامًا، يستغرق زوال ندبها زمنًا، فكيف بندوب القلب؟! حينما تجد أحدهم مصابًا في قلبه بالتحديد، أرجوك كن رحيمُا بحالته، لا تطل في نصائحك، لا تتفلسف فيما لا تشعر به، دعه يتألم حتى يتعافى، الألم أحيانًا يكون السبيل الوحيد للتعافي. كل منا يحمل جرحًا غائرا بداخله، والتعافي من هذا الجرح لا يكون إلا بمواجهته، الاعتراف به، بضراوته، وبالخسائر التي سببها لنا، أن ننهار ونجعل القلب يفيض بما يكتمه سيساعد كثيرا على تفريغ كل ما تراكم، لن أخدعك وأخبرك أن قلبك سيثلج وأن نيرانك الداخلية التي تصطفق ستنطفئ، لكنه سيخفف من وطأة ألمك تباعًا. الوقت.... الوقت كفيل بجعلك تعتاد، الوقت كفيل بتحويل مأتم اليوم، إلى حداد خفي دفين في أعمق نقطة داخلك، وقادر أيضًا على طي اللحظات التي ظنناها غير قابلة للنسيان - وأنا مثلك لا أصدق مثل هذه العبارات التقليدية لكن- الوقت ربما يحمل دواء الداء التي ألحقته بك الحياة.