"طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ." (مز 32: 1)، يقول الشاعر العربيّ أبو نواس: يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ إِنْ كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ فَبِمَنْ يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعًا فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَنْ ذا يَرحَمُ هذه الكلمات تبين حاجة الإنسان في كل مكان وفي كل عصر إلى الرغبة في التمتع بالغفران، فمها كانت الذنوب عظيمة فعفو الله أعظم، ومهما كانت الخطايا كبيرة فمحبة الله أكبر. هذه المقدمة تقودنا إلى الحديث عن مزمور 32 الذي يأتي فيه تطويبتنان مهمتان للحياة في علاقتها مع الله. وهذه التطويبة "طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ." (مز 32: 1) تعتبر تطويبة التطويبات في سفر المزامير. يأتي مزمور 32 على قمة مزامير التطويبات، بل على قمة الحياة بأسرها، لماذا؟ لأنَّ هذا المزمور يحدثنا عن غفران الخطايا. وهل هناك أفضل من الحديث عن غفران الله لنا؟ هذه عطية رائعة، هبة الغفران، ورسالة الغفران. وتدريجيًا تكتمل صورة الإنسان المطوب السعيد ففي المزمور الأول نجد السعادة في حفظ وصايا الله، وفي مزمور 2، ومزمور 40 السعادة في الاتكال على الله، وفي مزمور 32 السعادة في الغفران. ولأنَّ هذا المزمور يتحدث عن الغفران فمن الطبيعي أنّ يبدأ المزمور بالفرح وينتهي أيضًا بالفرح، وما بين فرح البداية، وفرح النهاية قرارات وتحولات كثيرة لا بد أنْ يأخذها ويجتازها الإنسان لكي يحيا في هذا الفرح. يتفق مزمور 32 مع مزمور 51 والأثنان كُتبا بعد الموقف اللأخلاقيّ الذي تعرّض له داود في ارتكابه لخطيتين من أصعب الخطايا وهما: خطية الزنا مع بثشبع زوجة أوريا الحثي، وقتل أوريا. وهذه الحوادث موجودة في سفر صمؤيل الثاني أصحاح 11، 12. وبذلك يكون داود قد كسر وصيتين من الوصايا العشر وهما: "لاَ تَزْنِ." (خر 20: 14)، "لاَ تَقْتُلْ." (خر 20: 13)، وبذلك يكون عكس التطويبة الأولى في المزمور الأول التي تربط بين السعادة وطاعة الوصية. ينضم هذا المزمور إلى مزامير التوبة وهم: مزمور 6، 32، 38، 51، 102، 134. والحالة التي نعيشها في هذا المزمور هي حالة الحزن من الخطية والتعب الذي تجلبه لنا، إلى حالة الفرح الحقيقي في التمتع بغفران الله لنا. فالخطية مثل الحية، ومن يخفي الخطية فإنَّه بذلك يدفئها. وهكذا يمكنها أن تلذغ بمزيد من القسوة وتنشر السموم والموت بمزيد من الفعالية. هذا المزمور يربط بين السعادة والغفران، ويربط بين الغفران والاعتراف بالخطأ، ثم يربط بين الاعتراف بالخطأ والتخلّص من الاحساس بالذنب. ويضع المزمور ثلاث طرق من خلالها يتحول الإنسان من حالة الحزن والجفاف إلى حالة الفرح والسعادة، هناك تحولات كبرى تحدث للإنسان: 1- التحول من حزن الخطية إلى فرح الغفران، 2- التحول من الضيق إلى فرح النجاة، 3- التحول من العصيان إلى فرح الطاعة. أولًا: التحول من حزن الخطية إلى فرح الغفران في العددين الثالث والرابع من المزمور يبين لنا ماذا تجلب الخطية للإنسان: "لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي الْيَوْمَ كُلَّهُ، لأَنَّ يَدَكَ ثَقُلَتْ عَلَيَّ نَهَارًا وَلَيْلًا. تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي إِلَى يُبُوسَةِ الْقَيْظِ." (مز 32: 3- 4)، وقد جاءت في الترجمة العربية المشتركة: "حِينَ سَكَتُّ عَنِ الاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ بَلِيَتْ عِظَامِي فِي تَأَوُّهِي النَّهَارَ كُلَّهُ، فَقَدْ كَانَتْ يَدُكَ ثَقِيلَةً عَلَيَّ نَهَارًا وَلَيْلًا، حَتَّى تَحَوَّلَتْ نَضَارَتِي إِلَى جَفَافِ حَرِّ الصَّيْفِ." هذه هي الحالة التي عاشها داود، والتي عبَّر عنها بكلمات كثيرة مثل: الخطية بمعنى معصية خاصة بعصيان الوصايا مثل الموقف الخاص بداود في كسر وصيتي لا تقتل، لا تزن، ثم الخطية بمعنى فقدان الهدف، تتطور إلى الذنب، ثم إلى حالة من الخداع والغش. وهي نفس الحالة للذين يحيون في الخطية، ولم يتخذون قرارًا بعد بتركها، وهذا الموقف يلخص هذه الحالة وهي: 1- لا سلام ولا راحة، التعب في الليل والنهار، فالضمير غير مسترح. 2- سقطت الحيوية، فالجسد الطري الرطب تحول إلى إلى اليبوسة والجفاف. في بعض الترجمات "تحول قلبي إلى الهشيم (ساق الشعير) في قيظ الصيف، وهذا المدلول يفهمة بقوة الفلاح في مصر ومنطقة الشرق الأوسط كيف يكون ساق القمح أو الشعير الجاف في حر الصيف. 3- فقدان المعنى للحياة، في الخطية يفشل الإنسان في الوصول إلى تحقيق أي هدف في الحياة فيكون الإنسان في حالة من الجمود يثر هذا على الحالة النفسيّة والروحيّة والعاطفيّة. فالإنسان في حالة البعد عن الله ميت وجامد. ماذا فعل داود لكي يخرج من هذا الموقف؟ 1- كسر حالة الصمت والرضا السلبيّ عن الذات، وهذا يحتاج إلى تقدير واقعي للحياة "أعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي وَلاَ أَكْتُمُ إِثْمِي. قُلْتُ: «أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي» وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي" (مز 32: 5). 2- أعترف بخطاياه "أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي" والاعتراف الذي عاشه داود ليس مجرد كلمات فقط ولكنه التزام أخلاقيّ بعدم فعل الخطية في المستقبل، وأنْ يتبع الإنسان الله في طاعة يوميّة مستمرة. 3- الثقة في غفران الله والاعتماد على نعمته المغيرة "وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي" (مز 32: 5) عندما تمتع داود بغفران الله له أنشد هذه التطويبة الجميلة "طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. طُوبَى لِرَجُل لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً، وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ." (مز 32: 1- 2). وهذه التطويبة قديمة حديثة، إذ نجد لها صدى قوي في العهد الجديد، فقد اقتبس الرسول بولس هذا الموقف في كلامه عن التبرير "كَمَا يَقُولُ دَاوُدُ أَيْضًا فِي تَطْوِيبِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَحْسِبُ لَهُ اللهُ بِرًّا بِدُونِ أَعْمَال: «طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ.طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً». (رومية 4: 6- 8). وهذا التبرير للجميع اليهود والأمم، وهو ليس بأعمال الإنسان لكن بعمل الله نتيجة للإيمان والتصديق، ولعل موقف إبراهيم هو خير مثال على ذلك "فَآمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا." (تك 15: 6)، وقد عبَّر الرسول بولس عن ذلك بالقول: "كَمَا «آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا»." (غل 3: 6). وأيضًا يقول: "لأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ «فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا»." (رو 4: 3) كذلك يقول الرسول يعقوب: "وَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: «فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا» وَدُعِيَ خَلِيلَ اللهِ." (يع 2: 23). خبرة السعادة التي عاشها داود في العددين 1، 2 تعطي قوة للإنسان، وقدرة على مواجهة المشكلات والصعاب التي تواجهه في الحياة.