ولد بوريس باسترناك لعائلةٍ ثرية ومتعلمة.. والدُه هو الفنان المشهور ليونيد باسترناك، البروفيسور في مدرسة موسكو للرسم والنحت، ووالدته هي ريتزا كوفمان عازفةُ البيانو. وهكذا نشأ في جوٍّ منفتح على ثقافات العالم.. وتعمَّقت علاقاته بالوسط المثقف من خلال زيارات سيرجي رحمانينوف ورينيه ماريا ريلكه وليو تولستوي. رغب، في البداية، أن يكون مؤلفًا موسيقيًا فدخل إلى كونسرفتوار موسكو، لكنه تحوَّل بعدها إلى الفلسفة التي درسها في جامعة ماربورغ، ليغادرها إلى مجال الكتابة الذي برع فيه براعةً فائقة. وفي مجموعته الشعرية الأولى يبدو تأثره بقصائد ألكسندر بلوك واضحًا، إلى جانب تأثره بفلسفة كانط، مع اعتماده على قافيةٍ موسيقية صعبة، ومفرداتٍ تحاكي لغةَ الحياة اليومية، مع إيحاءاتٍ عميقة جريًا على عادة ريلكه وليرمنتوف والشعراء الرومانسيين الألمان. ديوانه الأول (حياة شقيقتي) صنعَ ثورةً في الشعر الروسي، وجعل منه مثالًا للشعراء الروس الشبان، وغيّر الخامة الشعرية لسواه من الشعراء كمندلشتام ومارينا تسيفيتيينا وسواهما.. ورغم انقطاعه لفتراتٍ عن كتابة الشعر إلا أنه ظلَّ يَعتبر نفسَه شاعرًا في المقام الأول: "جئت إلى هذا العالم لأكتب الشعر.. القصيدة موجودة دائمًا في العشب.. وسوف يكون من الضروري أيضًا أن ننحني لنسمعَ صوت قصائدنا.. من الضروري أن تكون شديدةَ البساطة لتسبح في الأبدية".. وأشعاره، التي تأخذ جرْسًا وقافيةً موسيقيةً صعبةً، كانت تأتي من قناعته: "في الكتابة، كما في الكلام، جرس الكلمات ليس فقط مسألةَ صوت.. إنها لا تأتي من تناغم الحروف الصامتة والصائتة. إنها تأتي من العلاقة بين الكلام ومعناه.. والمعنى (المضمون) يجب أن يأتي تاليًا"، ومن هنا يأتي اختلافه عن الرمزيِّين والشكلانيين الروس الذين كانوا يريدون القصيدة مفصولةً عن سياقها الاجتماعي. والغريب أن منتقديه كانوا من الثوريين الروس ومن المعارضين على حدٍّ سواء، وصارت جملة: "أنا لم أقرأ باسترناك ولكني ألعنه" مألوفةً على ألسنة الروس. وخلال الحرب العالمية الأولى درس، وعمل في مصنعٍ كيماوي بالقرب من مدينة بيرم، وهذه التجربة، على الأغلب، أعطته المادةَ الخام لروايته الشهيرة (الدكتور زيفاجو). وعلى عكس كثيرٍ من أهله وأقربائه لم يغادر روسيا، ووجدت الأفكار الثورية الجديدة هوىً في قلبه وعقله.. ورغم الصعوبات التي واجهها، فقد ظلَّ يردِّد دائمًا: "لا أحب الأشخاص الذين لم يجرّبوا طعم السقوط والفشل، إن فضيلتهم جوفاء وبلا حياة ولا قيمة لها بالمرة.. إن الحياة لم تبدِ جمالها لهؤلاء". ورواية (الدكتور زيفاجو) تعبّر عن آرائه، من خلال الفن، حول حياة شخصٍ من التاريخ، وعن أشياءَ أخرى. وكان أولَ كاتب روسي تجرَّأ، في الحقبة السوفييتية، على كتابةِ أربعين عامًا من حياة روسيا، حيث الحروبُ والمجاعة وقمع بعض أفكار النخبة، سوء النظام الشمولي، العسكرتاريا والجريمة، وكلُّ ذلك في سياقِ بحثه عن حريةٍ جديدة الروح.. وكان يردّد: "في كلِّ حقبة لابدَّ من وجودِ أحمق يقول الحقيقة كما يراها"، ذلك أن الإنسان برأيه "يولد ليعيش الحياة لا ليستعدَّ لها". نال جائزة نوبل عام 1958 لانجازاته في الشعر الغنائي المعاصر، وفي حقل الرواية الملحمية الروسية. وقد قبلها لكن السلطاتِ أجبرته على رفضها فيما بعد. وقال في رسالة قبوله: "شكري كبير ومؤثر ومدهش". ولكنه بعد أربعة أيام كتب: "كان لابد أن أرفض الجائزة. أرجو أن لا تنزعجوا من رفضي الذي تمَّ باختياري الحر". ومورست عليه ضغوطٌ هائلة ما جعله يكتب رسالة إلى نيكيتا خروتشوف جاء فيها: "مغادرة مسقط رأسي ووطني يعادل الموت.. لقد ربحت جائزة نوبل فما هي جريمتي؟". وقد بدأت علاقته، التي حفظت له حياته مع ستالين، بمكالمةٍ هاتفية ودودة عن معنى قصيدة لماندلشتام؟ فرد بوريس: مناقشة عميقة حول هاجس الوجود وجدلية الحياة والموت.. وعندما جاءت لستالين قائمة لنفي أربعة وأربعين ألف شخصية روسية، ومن بينها باسترناك، كتب على الحاشية "لا تلمسوا ساكن الغيوم هذا". وزاد من إعجاب ستالين به ترجماته للشعراء القوقازيين الذين يحبهم، ولهذا استبعده عن قائمة النفي والاعتقال.. لكن اتجاه بوريس للترجمة لم يأت لإرضاء رئيسٍ قوي، بل بسبب خيبة أمله مما كان يكتب باسم الواقعيةِ الاشتراكية.. وحتى وفاته جراء سرطان الرئة، ظل باسترناك على قناعته بأن "الذي يرفع الإنسان عن مرتبة الحيوان هو قدرته على قول الحقيقة العارية".. وهاهو يقول قبل أيامٍ من موته، ورغم الخيبة التي رافقته لسنواتٍ طويلة: "ومع ذلك، وعلى بعد خطوةٍ واحدة من القبر ومن الموت، أنا أؤمن بأن القسوة، التسلط، وقوى الظلام ستتحطَّم بمرور الزمن على يدِ نور الروح".