تمتاز هذه القضية بحكم لم يتنبه له المسلمون في بناء مساجدهم، إذ تجدها في بعض خطط مدنهم متجاورة متلاصقة، على حين تخلو منها بعض الخطط مع أن المساجد تبنى في الإسلام ليجتمع المسلمون فيها للصلاة، فتكون وسيلة لاتحادهم وتآلفهم وتعاونهم، فإذا بنيت أكثر من الحاجة، كانت وسيلة للتفرقة بين المسلمين، ووجب هدم المستحدث منها، كما هدم مسجد الضّرار الذي وردت قصته في القرآن، وقد بناه بعض المنافقين ليضاروا به مسجد “,”قباء“,”. و“,”قباء“,” قرية تقع على ميلين من “,”المدينة“,”، وقد نزل بها النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة فأقام بين أهلها من “,”بني عمرو بن عوف“,” ثلاثة أيام، وأسس لهم مسجدًا نسب إلى قريتهم، فسمُي مسجد “,”قباء“,”، ثم سار إلى “,”المدينة“,” فأسس بها مسجده. وكان يوجد ب“,”قباء“,” جماعة من المنافقين، فكانوا يحضرون مسجد “,”قباء“,” على كره منهم، إلى أن أشار عليهم “,”أبوعامر“,” الراهب في السنة التاسعة من الهجرة ببناء مسجد لهم إلى جنب مسجد “,”قباء“,”، ليضارُّوا به أهله، ويفرقوا بين المسلمين في قريتهم. وكان “,”أبو عامر“,” قد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، وتنصر. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم “,”المدينة“,” قال له “,”أبو عامر“,”: “,”ما هذا الدين الذي جئت به؟“,” فقال له: “,”جئت بالحنيفية دين إبراهيم“,” فقال له أبو عامر: “,”بلى، ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها! فقال له: ما فعلت، ولكن جئت بها بيضاء نقية“,”. فلما كان يوم أُحد قال “,”أبو عامر“,” للنبي صلى الله عليه وسلم: “,”لا أجد قومًا يقاتلونك إلا قاتلتك معهم. فلم يزل كذلك إلى يوم حنين. فلما انهزمت “,”هوازن“,” يئس وخرج هاربًا إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدًا، فإني ذاهب إلى “,”قيصر“,” ملك الروم فآت بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه. فبنوا مسجد الضرار لهذه الأغراض السيئة، وأقاموه إلى جنب مسجد “,”قباء“,” من غير حاجة تدعو إلى إقامته. وقد نزل في هذا المسجد الآيات 107-110 من سورة التوبة: “,”لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ “,”. والظاهر من هذه الآيات أن أولئك المنافقين دافعوا عن مسجدهم، وحلفوا للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم لم يريدوا به إلا الحسنى، فإن كان ذلك قبل هدمه فليقوه الهدم، وإن كان بعد هدمه فليتمكنوا من إعادة بنائه، والظاهر من قوله تعالى “,” لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا“,” أن ذلك كان قبل هدمه، وأنهم حضروا أيضًا فدافعوا عن أنفسهم، وادَّعوا أنهم لم يريدوا به إلا الحسنى، فلم يستمع النبي صلى الله عليه وسلم لهم، لأنه لا يهم في مثل هذا أمر نيتهم، وإنما يهم فيه أمر الضرر الذي حدث من مسجدهم، وأنه – مع هذا – لا حاجة تدعو إلى إقامته بجوار مسجد “,”قباء“,”، وهو المسجد الذي أسس من أول يوم وطئت فيه قدم النبي صلى الله عليه وسلم أرض “,”المدينة“,” فيجب أن يبقى بناؤه، وبهذا يكون الحكم في هذه القضية بعد سماع كلام الفريقين، لا بعد سماع كلام فريق واحد.