انبهرت بصورة خروج الشعب المصري للمشاركة في احتفالات إحياء الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير، خرج الشعب متحديًا جماعات الإرهاب التي أرادت بث الرعب في نفوس الناس حتى يخرج الاحتفال باهتًا وغير شعبي، ولكن هذه الصورة أثارت لديّ بعض المخاوف حول المستقبل، فهذه الجماهير خرجت رافضة للواقع الأليم وحالمة بمستقبل أفضل، لكن الأحلام المبالغ فيها من جانب الشعوب أحيانًا تصبح أكبر عائق في سبيل المستقبل، تنتظر الجماهير مع الرئيس القادم والحكومة القادمة الأمن والاستقرار والاقتصاد والديمقراطية، وتشحن بعض وسائل الإعلام شحنًا مبالغًا فيه، وكأن مصر ستصبح دولة عظمى بمجرد انتخاب الرئيس الجديد وإجراء الانتخابات البرلمانية!. علينا أن ندرك كمّ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمر بها مصر الآن، فمصر تأكل - وكما يقولون - من "لحم الحيّ"، والشارع المصري أبعد ما يكون عن الاستقرار، والمجتمع منقسم على نفسه، والعدو الخارجي على الأبواب، إن الحالة يمكن تلخيصها بدقة في عبارة "الوطن في خطر". ما أشبه ما نعيشه الآن بالوضع الذي كانت تعيشه بريطانيا في بداية الحرب العالمية الثانية، بريطانيا العظمى مهددة في أساس وجودها، "هتلر" النازي يعصف بأوروبا كلها ويحاصر الجزر البريطانية، الاقتصاد البريطاني يتهاوى، الطائرات الألمانية تدك العاصمة لندن، إن وجه الشبه هنا أن الوطن في خطر وعلى أبناء الوطن أن يدركوا أين الطريق. في 1940 - ومع بدايات الحرب العالمية الثانية - وصلت بريطانيا إلى مرحلة الخطر، واستقالت الوزارة التي كانت تطالب بسياسة المهادنة مع النازية، فلا وقت للمهادنة، ووصل إلى الحكم "ونستون تشرشل" أحد أكبر زعماء بريطانيا - بل زعماء العالم أجمع - وكانت سياسة تشرشل هي المواجهة، وساعد تشرشل على المواجهة أنه قارئ جيد للتاريخ، فمن كلماته المأثورة "ادرس التاريخ، ادرس التاريخ فهنا تكمن أسرار الحكم"، لكن عظمة تشرشل أنه أدرك الواقع ولم يزايد على شعبه ويعده بالعسل واللبن، لكنه خاطبهم بالحقائق المؤلمة حتى تستطيع بريطانيا مواجهة الخطر، خاطب تشرشل شعبه قائلاً: "سنثبت مرة ثانية أننا قادرون على الدفاع عن بريطانيا، لن نتقاعس، سنواصل النضال حتى النهاية، لن نلقي سلاحنا، إن الإجابة الوحيدة على الهزيمة هي الانتصار". كما خاطب تشرشل الشعب موضحًا أنه لن يعدهم بالعسل واللبن وإنما بالألم والدموع والنضال، ولم ينفرد تشرشل بالحكم كديكتاتور، مع أن كل الظروف كانت مهيأة لذلك، لكنه أدرك أن الوطن في خطر وأن المهمة صعبة، ولا بد أن يشارك الجميع في إنقاذ بريطانيا، من هنا قام تشرشل بتشكيل حكومة ائتلافية، بمثابة حكومة حرب تكون مهمتها الأساسية إنقاذ بريطانيا والعمل على إجراء سياسات تقشف شديدة نظرًا للتدهور الكبير في حالة الاقتصاد البريطاني. ومن أجل بريطانيا تحالف تشرشل مع الاتحاد السوفيتي "الشيوعي"، والذي تختلف سياسته تمامًا عن التقاليد الإنجليزية الديمقراطية المحافظة، لكن تشرشل - والذين معه - نجحوا في تبرير ذلك أمام البريطانيين بأن هذا التحالف ضروري لأن هناك عدوًا أكبر هو النازية، ولأن بريطانيا في خطر. وبالفعل نجح تشرشل والذين معه في إخراج بريطانيا من أزمتها والانتصار في الحرب العالمية الثانية، لكن بريطانيا الديمقراطية لم ترض بخلق ديكتاتور جديد، وقالت ل "تشرشل": شكرًا، لقد أديت المهمة، وصوَّت البريطانيون لصالح حزب العمال لأن مرحلة ما بعد الحرب تستلزم سياسات اجتماعية جديدة، وبالتالي خرج تشرشل من الحكم، لكنه لم يخرج من التاريخ الإنجليزي، حيث يعتبر حتى الآن أشهر شخصية في تاريخ بريطانيا في القرن العشرين، بل أحد الثلاثة الكبار في تاريخ العالم في هذا القرن: تشرشل، ديجول وروزفلت. نحتاج إلى تشرشل، وليس إلى مستبد عادل، الأيام المقبلة أيام الألم والدموع والنضال، وليست أيام اللبن والعسل، ولكن هناك ضوءاً في آخر النفق.