مع دخول الأزمة في جنوب السودان شهرها الثاني بدأت تلوح في الأفق بوادر انفراجة في المفاوضات الجارية في أديس أبابا والتي ترعاها منظمة "الإيجاد" حيث يدرس طرفا النزاع، وهما وفد حكومة جنوب السودان والمتمردين، مشروعي اتفاق لإنهاء المعارك الدائرة في البلاد منذ 15 ديسمبر الماضي. وينص مشروعا الاتفاق على وقف إطلاق النار من جهة والإفراج عن 11 مسؤولا سياسيا اعتقلوا منذ بداية المعارك في جوبا بين القوات الموالية للرئيس سلفاكير وأنصار نائبه السابق رياك مشار، وتمكن وفدا الطرفين مؤخرا من تجاوز العقبة التي كانت تعرقل عملية التفاوض بينهما بعد أن اتفقا على فصل قضية الإفراج عن المعتقلين السياسيين عن موضوع وقف المعارك، ومناقشة كل مسألة على حدة. ويطالب المتمردون بإطلاق سراح المعتقلين وخروج القوات الأوغندية التي تقاتل بجانب الحكومة تمهيدا لتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار، في الوقت الذي أعلن فيه رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت، عن استعداد بلاده لإطلاق المعتقلين ولكن "بعد التحقيق معهم". وكانت المعارك اندلعت منذ 15 ديسمبر الماضي في الجنوب بين قوات الجيش الشعبي التابعة للرئيس سيلفا كير وقوات المتمردين الموالين لنائب الرئيس السابق رياك مشار وذلك بعد اتهام الأخير بمحاولة الانقلاب على السلطة وهو ما ينفيه مشار مؤكداً أن الاتهام ذريعة ليتخلص سيلفا كير من خصومه فى السلطة قبل الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2015. ومنذ ذلك الحين وقعت العديد من العمليات القتال الوحشية، التي اتخذت طابعا قبليا في أحيان كثيرة، بين قبيلتي الدينكا التي ينتمي إليها الرئيس سلفاكير والنوير التي ينتمي إليها نائبه السابق رياك مشار. وأسفرت تلك المعارك عن مقتل أكثر من 10 آلاف شخص وارتفاع عدد النازحين إلى أكثر من 400 ألفاً. ومثلت مدينة ملكال، المدينة الرئيسة في ولاية أعالي النيل، محور هذه المعارك باعتبارها مدينة استراتيجية غير أن قوات الجيش الشعبي أعلنت أمس استعادة سيطرتها عليها. وتختلف أراء المراقبين حول توصيف الصراع الدائر في جنوب السودان، فقد ذهب فريق منهم للقول بأن الصراع الذي تشهده دولة الجنوب الوليدة هو صراعا قبليا حيث تمثل القبيلة أهمية خاصة لدى الجنوبيين منذ نشأتهم مما جعل الانتماءات القبلية أقوى وأعمق من روابط الانتماء القومي، وهو ما تسبب في العديد من الانشقاقات داخل الجيش. فالبعد القبلي متجذر بقوة في الجنوب منذ الحرب الأهلية التى اندلعت في خمسينيات القرن الماضي وتعززت خلالها الروابط بين العنصر القبلي والصراع المسلح. وبعد استقلال دولة جنوب السودان وإدماج مختلف الفصائل المتمردة السابقة في الجيش، اختفت هذه الانقسامات بشكل سطحي ولكنها ظلت متواجدة في الباطن وهو ما جعل أوضاع الجيش هشة وغير مترابطة. بالإضافة لذلك فإن غياب مؤسسات الدولة يرسخ الاعتماد على القبيلة وتقديم الولاء لها على حساب الدولة، وهو ما يعكس الصراعات القبلية التاريخية، ويعرقل بناء مؤسسات دولة متبلورة الانتماء القومي. ورأى فريق آخر أن الصراع في الجنوب هو صراع سياسي في المقام الأول حيث أنه تجسيدا لاحتقان سياسي طويل، ومتجذر داخل "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، التى تمثل الحزب الحاكم في جنوب السودان. ويرفض هذا الفريق توصيف هذه الحرب ب "الإثنية "أو "القبلية" ويدللون على ذلك بأن مجموعة المعتقلين السياسيين الذين يطالب مشار بإطلاق سراحهم ينتمون معظمهم لقبيلة "الدينكا" التي ينتمي إليها سيلفا كير. كما أن الفريق التفاوضي للحكومة يضم أعضاء من كل المجموعات القبلية في جنوب السودان بمن فيهم النوير، وهو نفس ما ينطبق علي وفد مشار الذي يضم مفاوضين من كافة أرجاء الجنوب، بما فيهم الدينكا. ويرى هذا الفريق أن الصراع الدائر في الجنوب هو صراع على السلطة بعد القرارات الأخيرة، التي أصدرها الرئيس كير في يوليو الماضي، بإقالة نائبه مشار وحل الحكومة، وتجميد أجهزة الحزب العليا. وتفجر النزاع بين القيادات الجنوبية بصورة علنية، بعد أن أعلن مشار، عقب إعفائه من منصبه، عزمه منافسة سيلفا كير فى انتخابات 2015. ووقف بجانب مشار عدد من المسؤولين، الذين أطاح بهم كير فى إطار جهده للتخلص من القيادات التاريخية، ومن أبرزهم باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية، ودينق ألور، وزير الدولة الأسبق لخارجية السودان قبل الانفصال. وتظل الأزمات السياسية المتلاحقة هي السمة الرئيسية والمميّزة لنظام الحكم في دولة الجنوب الوليدة، فالوضع لايمكن قراءته من منظور قبلي فقط بل تتداخل فيه العديد من العوامل العسكرية والسياسية والاقتصادية في ظل أوضاع داخلية متفاقمة. فالصراع القائم بين القيادات الجنوبية غابت عنه قضايا التنمية ومكافحة الفساد وقضايا المواطن الجنوبي الحقيقية لتحسين الصحة والتعليم والطرق وتوفير المياه النظيفة وسبل العيش الكريم وذلك بعد أن فشلت حكومة الجنوب في تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها الذين لا يتعدى عددهم ال 15 مليون نسمة. وبعد عامين ونصف من الاستقلال أصبح 50% من الشعب الجنوبي يعيش تحت خط الفقر كما أصبح متوسط عمر الفرد المتوقع لا يتعد 42 عاما، فضلا عن ارتفاع معدلات الأمية وانتشار المجاعة في مختلف أركان الدولة. كما فشلت الدولة في الاستثمار في البنية التحتية وقطاع الأعمال. ولم تتمكن من استغلال ثروات البلاد على النحو الأمثل والسبب في ذلك هو أن الأنظار كانت تتجه دائما نحو النفط باعتباره يمثل 98% من ميزانية الدولة والمصدر الرئيسي لجلب العملة الصعبة داخل البلاد. وبالتالي فعندما قررت حكومة الجنوب في يناير 2012 وقف إنتاج النفط، بسبب خلاف حول رسوم العبور عبر مواني السودان، تسبب ذلك في انهيار كارثي للاقتصاد الجنوبي في ظل انعدام الخيارات والبدائل الاقتصادية وهو ما أدى إلى ارتفاع الأسعار وزيادة معدلات التضخم وانخفاض مستوى معيشة المواطن الجنوبي في بلد لا تزال مؤشرات التنمية تقترب فيه بالفعل من أدنى المستويات العالمية. ومع تفاقم الصراع على الساحة الجنوبية يبدو المشهد ملبدا بالغيوم لاسيما في حالة عدم نجاح طرفي النزاع في التوصل إلى اتفاق لوقف المعارك حيث أن استمرار الصراع على هذا النحو سيكون له أسوأ التداعيات على مستقبل الدولة الوليدة وقد يؤدي إلى انزلاق البلاد في حرب أهلية خاصة مع زيادة معدلات التوتر بين قبيلتي "الدينكا" و"النوير" إضافة إلى زيادة تدهور الأوضاع الأمنية، وتردي الأوضاع المعيشية للمواطنين وهو ما قد ينذر بنهاية دولة الجنوب التي لم تكمل بعد عامها الثالث.