كالمستجير من الرمضاء بالنار، سكن آلاف اللاجئين الفلسطينيين بمخيم اليرموك قرب العاصمة السورية دمشق منذ سنوات هربا من قمع وظلم الاحتلال واتخذوا المخيم رمزا لعودتهم الى وطنهم يوما ما بعد ان ينال حريته، لكنهم اكتشفوا مؤخرا انهم سقطوا في براثن واقع اكثر ايلاما هو الموت جوعا، في مأساة انسانية فاقت أي نكبة تعرض لها الشعب الفلسطيني. ومع احتفال كل انسان يتمتع بحياة طبيعية بالعام الجديد، ظهر الفيديو القصير الذي بثه نشطاء فلسطينيون لطفل لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات من مخيم اليرموك بدأ كلامه الممتزج بالبكاء الشديد بكلمتين: "انا جوعان"، كان لهما وقع الصدمة على كل سمعهما، وكانتا الشرارة الاولى التي لفتت الانتباه الى مأساة اهل المخيم وكأن لسان حال الطفل يقول "ماتت الانسانية". حركت كلمات الطفل المشاعر وشكلت انطلاقة لمسيرات احتجاجية وتضامنية وحملة تبرعات في ارجاء الاراضي الفلسطينية ودول عربية اخرى، حيث جسدت احد ابشع انواع قصص الموت البطيء بالمخيم الذي لا يزال يئن تحت وطاة الحصار والجوع وذبلت براءة الاطفال فيه خلف جلد جف وانهكته المأساة. و"مخيم اليرموك" أحد العناوين البارزة للتغريبة الفلسطينية ومرآة حية لمأساة اللجوء التي تجددت مرة اخرى بسبب الصراع الدموي الذي تشهده سوريا، فالاجئين الفارين من رصاص الاحتلال الذين سكنوا المخيم كتب عليهم الموت جوعا في مأساة للموت البطيء فاقت نكبة فلسطين عام 1948. والمخيم الذي احتضن عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا بات الآن مدمرا، وفر منه اكثر من 130 الف لاجيء مع اشتداد حدة المعارك بين قوات المعارضة والنظام السوري والتي انتقلت الى المخيم منتصف شهر ديسمبر من 2012. وتحول مخيم اليرموك منذ ذلك الوقت الى احدى ساحات الصراع الذي دفع ثمنه اللاجئون الموجودون فيه رغم التزامهم بقرار القيادة الفلسطينية بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، لكن المخيم للاسف وقع في قبضة المسلحين بالكامل وبات مسرحا للحرب حيث يحاصر سكانه بلا شفقة او رحمة ويتركهم المسلحون يموتون جوعا مع رفض ادخال أي مساعدات غذائية او طبية لهم. ويتبقى الآن في المخيم نحو 20 الف لاجيء تقطعت بهم السبل للنجاة بأنفسهم فما كان امامهم سوى البقاء في المخيم بظروف انسانية ومعيشية بالغة الصعوبة فلا غذاء ولا دواء او كهرباء فيما الرصاص والقذائف تحاصرهم من كل مكان. ومع انقضاء الساعات لا يزال الاطفال والشيوخ من سكان المخيم بشكل خاص يسقطون من الجوع في صور يبكي لها القلب قبل العين، فلم تفلح حشائش الارض واوراق الشجر والقطط النافقة التي اصبح يقتات عليها سكان المخيم في انقاذهم من موت بطيء ازهق ارواحهم بعد معاناة لا يتحملها بشر. ووصل عدد "ضحايا الجوع" بمخيم اليرموك حتى الآن الى اكثر من 50 شخصا، والعدد في تزايد مستمر بالطبع مع عدم قدرة أي مبادرات او اتفاقيات وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية على دخول حيز التنفيذ. ورغم ان حملة التبرعات التي اطلقتها وزارة الاوقاف الفلسطينية تحت عنوان "اغيثوهم" لاقت نجاحا كبيرا، الى جانب وجود حملة اعلامية ضخمة باسم "هنا مخيم اليرموك" وحرص ابناء الشعب الفلسطيني، حتى الاطفال والاسرى، على التبرع لسكان مخيم اليرموك، فقد ذهبت تلك الجهود سدى حتى الآن مع شن الجماعات المسلحة داخل المخيم لهجمات مكثفة بالرصاص وقذائف الهاون على أي قافلة مساعدات تحاول دخوله. وينتمي المسلحون المرابطون داخل المخيم الى عدة تنظيمات وفصائل من المعارضة المسلحة، وهم يرفضون الانسحاب من المخيم نظرا لموقعه الاستراتيجي ويتخذون من اللاجئين المقيمين هناك دروعا بشرية. ويرجع فشل أي جهود قامت بها منظمة التحرير الفلسطينية حتى الآن للوساطة من اجل السماح بدخول مساعدات غذائية لأهل المخيم الذين يصارعون الموت يوميا بسبب الجوع الى الاتفاق مع طرف او اثنين، لكن الاطرف الاخرى ترفض تنفيذ الاتفاق، ولا يزال هذا الوضع كما هو عليه منذ مدة مما ادى لتفاقم الوضع وتفجر كارثة انسانية حقيقية بمخيم اليرموك. وانتقد العديد من النشطاء الفلسطينيين عدم قيام المنظمات الانسانية بواجبها واثارة القضية في اروقة الاممالمتحدة وكل المحافل الدولية في محاولة للضغط على المسلحين وانقاذ سكان المخيم من هذه المأساة، وكأن اللاجئين الفلسطينيين ليسوا بشرا. ورغم اعلان القيادة الفلسطينية بشكل واضح انها ترفض التدخل في شؤون أي دولة عربية، يتضح ان الجماعات المسلحة التي تمركزت داخل مخيم اليرموك تريد ان تزج به وبسكانه في اتون الحرب السورية. ومع عقد منظمة التحرير الفلسطينية اجتماعات شبه يومية في محاولة لانهاء الازمة وادخال المساعدات الى سكان المخيم، وخروج مسيرات احتجاجية في كل ارجاء فلسطين تنديدا بالتقصير في انقاذ الفلسطينيين هناك، يظل الحال كما هو عليه مع رفض المسلحين انقاذ سكان المخيم من براثن الموت جوعا واستمرار لجوء هؤلاء السكان الى تناول حشائش الارض واوراق الشجر التي رقت لحالهم اكثر من بني البشر.