اقتصرت عليهم، تعلموها فقط، ولم يورثوها، وأصبحت حرفة تواجه الانقراض وتندثر مثلما اندثرت أشياء كثيرة وطواها الزمن.. إنها صناعة عدسات النظارات توجد حاليا فى خمس عشرة ورشة فى مصر، حرفة لا تتطلب أن تكون طبيبا فكل ما عليك هو التعلم من «عم محمد» وهو أقدم العاملين بها تعلمها منذ عام 1963، «صناعة عدسات النظارات» التى تعانى هذه الأيام من قلة الإقبال عليها حتى بتنا لا نعرف أهمية تلك «الصنعة» التى بانقراضها لا نجد ما يرى به ضعاف النظر، فتتخصص تلك الحرفة فى صناعة جميع مقاسات النظارات الطبية وخاصة المقاسات ذات المرحلة المتأخرة لدى المرضى ولا تستطيع الآلات المتطورة إنتاجها، هنا نبرز أهم مراحل التصنيع وتاريخها. «على» أصغر معلمى الصنعة: مخاطرها كبيرة الأسطى «على» صاحب ورشة بعابدين، لم يتعد عمره الثلاثين عاما، يعد من أشهر وأمهر الصنايعية، كما يقولون فى هذا المجال، وكذلك أصغرهم سنا، يقول «على» إن هناك مضايقات كثيرة فى مجالنا، فلا يهتم أحد بتلك المشكلات، فنحن عصب المهنة رغم ما نتعرض له من مخاطر، ولكن نسير فى نفس الطريق، ولا يمكن أن نتركه، لأننا تربينا عليه وكذلك على الكفاح فى العمل حتى نصل إلى ما نحلم به. وعن المخاطر التى يتعرضون لها دائما، يقول الأسطى على: «إن الكهرباء والسخونة من تلك المخاطر وكذلك الزجاج الذى من الممكن أن ينكسر ويحدث بعض الإصابات». ويؤكد أن مراحل تصنيع النظارات كثيرة، وحتى نصل إلى النتائج نحتاج إلى جهد كبير لا يشعر به أحد، فبداية من طلب المقاسات الخاصة بالنظارة وتصنيعها والمراحل العديدة التى تمر بها حتى تصل إلى التوزيع، ويوجد عدد كبير من الأنواع الخاصة بالعدسات التى تصنع من الزجاج مثل «براون، جرى، فوتو صن، فلنت مضغوط، فلنت بنى، بى تو، بى وان، أى تو، أى وان، أبيض». 45 دقيقة لصناعة نظارة واحدة والديجيتال بديل «فوكو ميتر» صناعة العدسات عملية معقدة ودقيقة جدا، تتطلب تسليم العدسة مطابقة للأرقام وقياسات النظارات، التى يطلبها التاجر أو الزبون، ويتم فى البداية تحديد المقاسات والخامات المطلوبة التى تناسب العدسة، وتتم كتابة المقاسات على العدسات التى لا يوجد بها تعديل، ثم أدخلها على جهاز «الاستجمتزم»، ووضع مادة تسمى «المنس»، ثم على الفورمة، حيث تتم عملية الصنفرة ووضع «المونة الإنجليزى» عليها للتنظيف وتلميعها، وعقب تصنيع العدسات يتم تسليمها إلى التاجر أو الزبون. يتطلب تصنيع هذه العدسات مجهود كبير، فتصنيع النظارة الواحدة قد يستغرق 45 دقيقة حتى يتم ضبط العدسات بنسبة 100٪. «فوكو ميتر» هو جهاز المرحلة النهائية بعد تسلم العدسات نظيفة، يتم وضعها على هذا الجهاز ليرى بها «العميل» ويتأكد من صحة المقاسات، عقب ذلك يتم قصها وتلميعها مرة أخرى ووضعها فى «الشنبر» الذى اختاره الزبون من قبل. وحلت أجهزة الديجيتال مكان ال«فوكو ميتر»، التى توضع فيها العدسة لتقرأ المقاسات، فيظهر مقاس العدسة على الشاشة، وبعد ذلك تسلم النظارة إلى العميل لتعود إليه ألوان الحياة ووضوحها الذى غاب عنه فترة. أقدم صنايعى: المهنة اتظلمت والبلد هتعانى لو اختفت «مش هعلمها لولادي».. بتلك الجملة عبر عم محمد عما تمر به مهنة صناعة النظارات والمعاناة، التى عاشها منذ عام 1963، فيعتبر أقدم صنايعى فى مصر الذى ظل أثناء حديثه يحدثنا عن حبه للزعيم الراحل عبدالناصر، الذى جعل لمصر شأنا بين الأمم. على بعد أمتار من شوارع وسط القاهرة تحديدا ميدان عابدين، وداخل الحوارى يعمل «عم محمد» بإحدى ورش تصنيع النظارت القديمة، التى تعرف بسمعتها الطيبة وجودة عملها، سمح لنا بعد تردد كبير أن يروى لنا عن مشاكل وتاريخ هذه المهنة، وكذلك كيفية إدارتها فبدأ حديثه: «هذه المهنة عانينا فيها كثيرا منا من أخذ حظه فيها ومنهم لم يحالفه، وظل صنايعى كما هو حالى الآن، وأن هذه المهنة لكى تأخذ حقها فى مصر، كان لا بد من الاهتمام بها أكثر من ذلك لأن هذه المهنة إذا اختفت خلال الفترة القادمة، سوف يكون هناك أزمة فى مقاسات النظارات العالية التى يتطلب تدخل ورشنا لصنعها». وأضاف أن بداية الورش كانت فى إنجلترا وألمانيا فى ثلاثينيات القرن الماضى، ثم انتقلت إلى مصر وعمل بها كثير من اليهود، وانتقلت إلى كثير من المصريين، وبدأ ينفض منها الكثير إلى أن وصلت بها الحال التى أوشكت على الانتهاء، فإجمالى أعداد الورش فى مصر لا يتعدى خمس عشرة ورشة. ويقول إن الأجانب لهم بصمات كبيرة فى ذلك المجال، وكان أشهرهم فى منطقة عابدين ووسط البلد، وهم «حبيب وباركى وميشيل جريش»، وكان فى الماضى أعلى كل محل لبيع النظارات ورشة لتصنيع العدسات. ينهى عم محمد حديثه قائلا: «أنا شغال من عام 1963 فى المهنة، ولا بد أن تستمر حتى لا تغلق مصادر أكل العيش للكثير، وأن هذه الصناعة معقدة جدا، ولا بد لمن يتعلمها أن يكون على وعى كبير بها لأن الخطأ بها قد يتسبب فى إيذاء الغير». أصحاب محلات النظارات: لا يمكن الاستغناء عن الورش صنعت أول نظارة طبية دقيقة فى إيطاليا سنة 1286 ميلادى، فبالمصادفة كان العالم الإيطالى الفيزيائى «سالفينو دويلى أرماتى» قد ألحق الأذى بعينيه فى إحدى تجاربه الفيزيائية على انعكاس وانكسار الضوء، لكن المصادفة قادته إلى تصحيح بصره باستخدام قطعتى زجاج مقوستين فوجد أنه يرى بشكل جيد. ومن هنا بدأ اكتشاف النظارة ولم تكن أدواته كافية لإحداث أعجوبة ابتكار جديدة، لكنها كانت البذرة الأولى فى إشعال جذوة البحث حول ما أحدثته قطعتا الزجاج المحدبتين ؛ وفى إطار التحقق من أسبقية ابتكار النظارات الشمسية، ثمة مَن يُرجع هذا الابتكار إلى عالم البصريات العربى الحسن بن الهيثم، ولكن ليس هناك دليل على هذا، مع أن ابن الهيثم كان عالمًا فذًا فى زمانه؛ وثمة من يرى أن تاريخ النظارات يعود لعصور الصين وروما القديمة. فالإمبراطور الروماني (نيرو) كان يشهد حفلات المصارعة من خلال نظارات لامعة ومصقولة، لا بمعنى النظارات التى نستعملها اليوم لكن من خلال غطاء زجاجى يقيه لمعان الشمس؛ وقيل أيضًا إن الصينيين استعملوا النظارات الشمسية فى القرن الثاني عشر، وكانت مصنوعة من عدسات من الكوارتز المدخن، كما أن القضاة الصينيين استعملوا النظارات ليخفوا تعابير وجوههم عند التحقيق مع الشهود! يؤكد أصحاب محلات النظارات أن الورش التى تقوم بتصنيع العدسات الزجاجية لا يمكن الاستغناء عنها، فالعدسات الجاهزة لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كلى؛ لأن هناك مقاسات مختلفة تتطلب لمسات الصنايعى أو ذوو الخبرة بالورش، فهم على وعى كبير أكثر من المصانع الجاهزة، ولكن هذه الصناعة فى سبيلها إلى الانقراض، وطالب أصحاب محلات النظارات بضرورة توفير بيئة مناسبة لهذه الصناعة، مثلما حدث فى المدابغ وغيرها، لمواكبة التطور الذى يحدث فى جميع الصناعات.