«الصنايعية» هجروا المهنة وشيوخهم يواجهون الانقراض: مع بدايات القرن الماضى كان العالم أجمع يتعامل مع الصنايعى والحرفى المصرى على أنه فنان «نمكى» من الطبقة الأولى، يصنع ويبدع فى آن واحد. ويمتد أصل النمكية إلى مصر الفرعونية، حيث كان العامل حرفيًّا بدرجة مبدع، وما تركه من نقوش على جدران المعابد هو نتاج ورش جماعية. وكانت المُنتجات المصرية، خصوصًا التى تعتمد على الحرف اليدوية والمهارات الفردية نموذجًا يقتدى به فى الدقة وجمال «الصنعة»، وتحولت إلى تحف فنية تزين أروقة وطرقات المتاحف الأوروبية وبيوت السائحين، الذين باتت أماكن تصنيع هذه المنتجات مقصدًا ومزارًا لهم. واستمر هذا الوضع فترات طويلة بقيادة مجموعة من «النمكية» الذين يبحثون دائمًا عن الكمال والإتقان فى عملهم، حيث ساهمت خلاله هذه الحرف فى إعلاء شأن «الصنايعى» المصرى الذى بات مطلوبًا فى كل دول العالم. منذ بداية الربع الأخير من القرن الماضى ومع بداية عصر الانفتاح هجر الجيلان الثانى والثالث من «النمكية» المهنة، وفروا إلى العمل فى الخارج، أو امتهنوا مهنًا أخرى أكثر دخلاً وأقل جهداً.. وظل شيوخ الحرف ممسكين بحرفهم وميراث آبائهم وأجدادهم بأيديهم وأسنانهم، إلى أن بدأوا فى الانقراض لتضيع معهم أصول وقواعد وأسرار مهن أذهلت العالم. والآن وبعد أن ضاع العمال وضاعت حقوقهم، فإننا أحوج ما نكون إلى العمل على إحياء مهن انقرضت، وإنقاذ أخرى على حافة الهاوية قبل فوات الأوان. صنايعى «القفاص» يتحدى التكنولوجيا «الكثير ينظر إلى التكنولوجيا على أنها تقدم وازدهار، إلا أنهم لا ينتبهون إلى مخالبها التى طالت الصناعات وتحولت إلى سرطان ينهش فى تراث المهن، ودمرت أخلاق الصنايعى، وأضاعت الدقة والاتقان والإبداع» هكذا شخّص محمد محمدى، قفاص، حال الحرفيين فى مصر. وفى تحدى للتتكنولوجيا، ذكر عم محمد أنه يسعى لتوريث المهنة لأولاده، ويعلمها للشباب، حتى لا تنقرض، كما سيعمل على نشر قيم الصناعة التى تشمل الصبر والدقى والاتقان، قائلا: «التكنولوجيا دمرتنا.. الصنايعى كان عزيز، دلوقتى مبقاش ليه قيمة.. عوضنا على الله». وعن قيم الصنايعى قديمًا، قال عم محمد إنه كان يجتهد لإثبات ذاته بحرفيته ومهنيته، ويبعد فى عمله، ليميز منتجاته عن غيره، إلا أن العصر الحالى غلبت التكنولوجيا ولجأ الشباب إلى الفهلوة والسرعة دون اتقان العمل، أو تميزه، وأصبحت المنتجات شبيهة ببعضها البعض. فى دكانة تشبه الكوخ ظهر عليها ملامح العجز اسودت جدرانها وتآكلت أبوابها من طول عمرها، يجلس عم محمد على الأرض، ليمسك بيده جريدة النخل من بين العيدان المنتشرة حوله، وبالمنجل الحديدى الذى يحملة يقوم بتقشيرها لتشكيلها كما يريد. تلك المهنة ورثها عم محمد، عن أبيه وأجداده فهو يعمل بها منذ أن كان فى الخامسة عشر من عمره، وكانت المهنة لدى العائلة كميراث شرعى يورثها الأباء للأبناء نظرًا لحبهم لها وتقديرًا لمنزلتها لديهم، فضلًا عن كونها مصدر رزق مربح آنذاك، أما الآن فضاعت قيمتها، وأوشكت المهنة على الانقراض. وعن دخل المهنة، ذكر عم محمد أن مهنته كانت تجلب له نحو 200 أو 300 جنيه فى اليوم، أما الآن فأصبح دخله لا يزيد عن 40 جنيه فى اليوم، مشيراً إلى أنه يعافر من أجل الاستمرار وبقاء الحرفة. شباب «المنجدين» أضاعوا أخلاق المهنة يفتقد حرفو مهنة التنجيد صفات المهنة الأساسية، مثل الصبر والمهارة والإتقان والذكاء، واتجهوا إلى مواكبة العصر بالاعتماد على الآلات والتسرع فى التنفيذ دون النظر إلى أهمية الدقة والإتقان. وأصبحت المهنة مهددة بالانقراض، فى ظل انتشار مصانع المراتب والوسائد والألحفة والمفارش الإسفنجية والفايبر، وغياب الصفات والمعايير الحقيقة التى لابد من توافرها لدى ممتهنيها، حسبما أكد مجدى سعودى، أحد المنجدين بمنطقة البراجيل بمحافظة الجيزة. يروى «سعودى» أن المنجد قديمًا كان يتحلى بالصبر فى العمل والذكاء والإتقان، إلا أن شباب هذا العصر يميلون إلى العمل السريع والأجر الكبير، وهو ما لا يتوفر فى تلك الحرفة. ومع تدريبه أجيالًا مختلفة عبر العصور، يرى «سعودى» أن كل جيل أسوأ من الجيل الذى يسبقه فى تلك الحرفة، وتقل قدرته على الإبداع والإتقان، مشيرًا إلى أن تلك المهنة أوشكت على الانقراض بعد الاعتماد على المراتب «الفايبر» و«الإسفنج»، لرخص سعرها. وذكر الأسطى سيد عطية عبدالجواد، 61 عامًا، أن المهنة كانت قائمة على المهارة والذكاء والتركيز، لذا كان المواطنون يلجأون إلى المنجد، لتنجيد جميع مفروشات المنزل، أما الآن فهذه الصفات لم تُعد موجودة بين المنجدين الشباب- القلة القليلة الموجودة– لذا فإن المراتب والمخدات لم تكن بمهارة وإتقان زمان، الأمر الذى أدى إلى عزوف معظم المواطنين عن التنجيد واللجوء إلى شراء المراتب الفايبر والإسفنج من المصانع. وعن مراحل التنجيد، يحكى الأسطى عطية، أنه يقوم أولًا بشراء القطن والأقمشة المناسبة، ثم يقوم بتنجيد القطن، موضحًا أن تنجيد القطن كان يتم قديمًا من خلال استخدام القوس والعصا، حتى ظهرت الماكينة التى تعمل بالكهرباء، وبعد ذلك يقوم بتخيط القماش وحشوه بالقطن، وإغلاقه من جميع الأطراف، ومن ثم تسويته باستخدام العصا. وأضاف عطية أنه على الرغم من اتجاه العديد من المواطنين إلى شراء المراتب الجاهزة إلا أن مراتب القطن تكون مفيدة للبدن وصحية أكثر من غيرها، ويوصى بها الأطباء لمرضى العمود الفقرى. «البجاحة» أضاعت «البردى» تاه الصنايعى وسط الوضع المتردى للأخلاق فى العصر الحالى، وأصبح الصبى «يتبجح» فى وجه الأسطى، دون أن يتعلم شيئًا منه، فأضاع صناعة «ورق البردى»، بعد أن كانت إحدى أهم الصناعات فى مصر، هذا ما قالته ثناء عبدالحميد، 89 عامًا، أسطى صناعة البردى فى قرية قراموص بالشرقية. وأضافت «ثناء» أن شباب العصر أصبحوا يعتمدون على الصوت العالى، وقوة أبدانهم، دون التفكير فى مستقبل أو السعى لاكتساب حرفة يتكسبون من ورائها، قائلة: «كل حاجة بقت ماشية بالدراع مفيش حاجة اسمها صنايعى زى زمان». وبعد أن كان أهالى «قرية قراموص» يعيشون على صناعة الورق البردى، الذى يميزهم عن غيرهم، ويعد مصدر دخلهم الوحيد، لقلة تكاليفه، وسهولة صناعته، أصبح تصنيع البردى فى طريقه إلى الانقراض، بعد تدهوره الملحوظ عقب ثورة 25 يناير، لانحدار الوضع السياسى. وأوضحت «ثناء» أنه لا يوجد مجال للمقارنة بين مهنتهم قديمًا وحديثًا، مؤكدة تردى قيمة الصنايعى فى وقتنا هذا معنويًا وماديًا، مبينة أن أسرتها تعانى فرقًا كبيرًا الآن عما كان قديمًا، قائلة: «زمان كان فى خير، إحنا مش لاقين ناكل دلوقتى». وعن طريقة تصنيع البردى، تشرح «ثناء» أنها تقطع السيقان وتنزع الغلاف الخارجى، ثم تقطع الجزء الداخلى إلى شرائح، وبعدها يتم تعريضها إلى مرحلتين إحداهما تسمى «تبسيط» والأخرى تدعى «كلورة»، ثم توضع الشرائح بعضها بجانب البعض، ثم توضع طبقة عمودية على اتجاه الطبقة السفلى، ويفصل بين كل طبقة وأخرى بفاصل قماش ليمتص العصارة، ثم يتم وضعها جميعًا تحت ما يسمى بالمكبس، لتخرج بعدها وتتعرض للشمس لتجف وتصبح صالحة للكتابة، ويتم بيعها أو توريدها بعد ذلك حيث يتم بها بعض التعديلات الأخرى لتكون جاهزة للبيع. واشتكت ثناء من تزايد أسعار الكلور المستخدم فى صناعة البردى على الرغم من تدهور نسبة الإقبال على شراء البردى، ما يعود عليهم بالخسارة وانخفاض نسبة المكسب. حداد العصر.. «ملوش كبير» برغم تقدم الحالة المعيشية للحدادين بشكل ملحوظ، لكن الصنايعى فقد شموخه ومكانته، وعرف بالبلطجة والفهلوة، وأصبح بلا كبير، حسب الأسطى السيد محمد أحمد، 70 عامًا، صاحب ورشة حدادة فى محافظة الشرقية. ويحكى «محمد» أنه قضى طفولته يتعلم الحدادة، وبدأ يحترف فى شبابه، واستكمل عمله عند «الأسطى» حتى يصبح حدادًا بارعًا، وظل طوال حياته يحترمه ويبجله، لأنه علمه حرفة، إلا أن الأيام الحالية أصبح الشباب لا يحترمون «الأسطى» وإنما يعاملونه بجفاء. وبعد أن كانت مهنة الحدادة تعتمد على الحرفية والمهنية، أصبحت مهنة من يملك ويقدر على شراء المعدات والآلات الحديثة، بسبب الأزمة الاقتصادية وإهمال الدولة للحرفيين. وفى مقارنة بين الماضى والحاضر، ذكر «محمد» أن الصنايعى كان يكد ويتعب فى العمل حتى يخرج عملًا متميزًا، أما الآن فحلت الآلات والمعدات والأجهزة محل البشر، وضاع منها الإبداع والإتقان فى العمل. وأشار عم سيد، إلى أن «الصنعة» قديمًا كانت لا تعنى صاحب ورشة فحسب، لكنها كانت تعنى الكثير، حيث كان الصنايعي يتسم بالقدرة على التحمل حتى يصل لأفضل ما تنتجه يده، وكان يتباهى بعمله. وفى تفسير لضياع الحرفية من نفوس الشباب، رأى عم سيد أن المجتمع شهد أزمة أخلاقية فى معظم المجالات، وانتشرت بشكل ملحوظ بين الصنايعية، معتبرًا أن تلك الأزمة من أهم الأسباب التى جعلت معظم المهن تسير بالبلطجة والفهلوة، قائلًا: «الصنايعى مبقاش ليه كبير». إبداع «الشفتشى» يواجه الانقراض «الشفتشى» من المهن التى أوشكت على الانقراض، بعد عزوف الشباب عنها، لما تتطلبه من جهد وصبر ودقة، لم تعد موجودة فى هذا العصر، كما قال «عصام حلمى»، أحد شيوخ الحرفة فى منطقة خان الخليلى. يتعامل الحرفى فى تلك المهنة مع الفضة المنصهرة، التى يشكلها ليصنع منها المصوغات الشرقية والفرعونية من خواتم وأساور.. وغيرها، ما يحتاج إلى قدرة على الإبداع والتفنن فى الأشكال حتى يجتذب الزبائن والسياح للشراء. وقد كان مصنع «ياقوت حسن» للمصوغات الشرقية والفرعونية فى منطقة خان الخليلى ممتلئًا بالعمالة فى أربعينات وخمسينات القرن الماضى، وبعد أن كانت الأجيال تتوارث المهنة، ويتلهف عليها الصبية، أصبحت مهددة بالاندثار، لتراخى الشباب عن تعلمها. واقترح عم عصام أن تعطى له الدولة الفرصة لتعليم أطفال الملاجئ تلك الحرفة، حتى لا تنقرض، فضلًا عن الاستفادة بهؤلاء الأطفال، وتعليمهم الصبر والدقة والإبداع، لتعود تلك القيم إلى نفوس شباب المستقبل. وأعرب عم عصام عن استيائه من اندثار الحرفة، وإغراق السوق بالبضائع الصينية المقلدة، وضياع «صنعة» المصريين، وتقدمها فى الصناعات، قائلا: «محدش عايز يشتغل، وكل أب عايز يطلع ابنه دكتور أو مهندس، شباب اليومين دول اتعودوا على التكنولوجيا والسرعة، وتخلوا عن الصبر والإبداع». سرعة العصر تغتال الإبداع فى «الخيامية» الدقة والإتقان والصبر.. صفات أساسية تتطلبها أغلب المهن فى المجتمع إن لم يكن جميعها، إلا أن هذه المفاهيم والمصطلحات بدأت تتلاشى وتندحر واحدة تلو الأخرى، لتصبح مجرد ذكريات من الزمن القديم، يعرفها رواده فقط. صناعة «الخيامية» واحدة من تلك المهن التى أفقدها الزمن الإتقان فى الأداء بفعل سرعته المتناهية، والاعتماد على التكنولوجيا فى كل تفاصيله، تلك المهنة القاطنة فى شارع الخيامية، يعود تاريخها لعام 1092، وفقًا لما ذكره «حسن ذكى»، صاحب ال65 عامًا، وأحد رواد هذه «الحرفة». الخيامية هى صناعة الأقمشة الملونة التى تستخدم فى عمل السرادقات فى المآتم والأفراح، وهى فن مصرى أصيل تفردت به مصر عن باقى الدول، وارتبطت هذه الصناعة فى ستينات القرن الماضى بكسوة الكعبة، التى كان مصر تقوم بتصنيعها وإرسالها لمكة المكرمة ببلاد الحجاز. والعمل فى هذه الحرفة كان يتم بشكل يدوى، ما يعنى أنها كانت تأخذ وقتًا طويلًا للغاية، ولم يكن هناك مجال للخطأ، حسبما يقول «ذكى»، مؤكدًا أن هذا الأمر كان يتطلب منهم التركيز فى كل تفصيلة عند صناعة الخيامية. وفى نهاية السبعينات من القرن الماضى، دخلت الطباعة إلى مهنتهم، وبات الاعتماد بشكل أساسى قائمًا على الآلة، بدلًا من العمل اليدوى، حسبما ذكر «ذكى»، فشهدت صناعتهم بعض التحديثات، وأصبحت «الخيامية» صناعة يغيب عنها الإبداع والدقة. ومن الأمور التى طرأت على المهنة أيضًا، ولم تكن موجودة فى السابق، يقول «ذكى» إن اتجاههم لاستخدام الخيامية ليس فقط فى مناسبات الفرح والمآتم، بل اتجهوا لصناعتها بشكل يُمكن من استخدامها فى البيوت المصرية، بشكل «خدادية، مفارش سرير، ومعلقات على الجدران». ويتابع قائًلا: إن الأزمة التى تواجههم فى الوقت الحالى هي غياب السياحة، وتدهور أحوالها فى مصر خلال الفترة الأخيرة، لأن أغلب رواد هذا الشارع والأكثر إقبالًا على منتجهم وصناعتهم هم السياح.