عين الخبير إذا كان هناك شيء واحد يجب أن يتذكره التاريخ عن الحرب الإسرائيلية المصرية فى أكتوبر 1973، فهو بلا شك أن هذه الحرب هى التى جاءت بالسلام! هناك سببان لذلك؛ الأول هو أن هذه الحرب جردت الصراع العربى الإسرائيلى من الوازع الديني؛ فلقد حارب المصريون رغم شهر رمضان، وأيضًا حارب الإسرائيليون رغم عيد القديس كيبور.. هكذا ولأول مرة منذ اندلاع الصراع فى الشرق الأوسط عام 1948، انتصرت الجغرافيا السياسية على الدين؛ لأنه من وجهة نظر الفقه الإسلامي، يُعتبر رمضان شهرًا للصوم والعبادة والاعتكاف، كما يحظر اللاهوت اليهودى الصراع المسلح فى يوم كيبور لأنه عيد الغفران العظيم، المخصص لتطهير النفس والتصالح مع الجار. أما السبب الثانى فيكمن فى أن الانتصار المصرى الساحق تحقق خلال الأيام الأولى من الحرب بسبب استخدام المصريين لعنصر المفاجأة مستغلين فى ذلك القيود الصارمة التى يخضع لها الإسرائيليون فى يوم كيبور، وأدى هذا الانتصار إلى انهيار نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على التفوق العسكري. كان الحدث الرئيسى فى حرب أكتوبر1973 هو انهيار خط بارليف الشهير فى عدة ساعات، ذلك الخط المنيع الذى أقامه الإسرائيليون بعد نكسة العرب فى يونيو 1967 واحتلال سيناء.. أدى سقوط هذا الحائط الدفاعى الذى كان بمثابة خط «ماجينو» الصحراوى على طول قناة السويس، إلى انهيار أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر، وهى الأسطورة التى ترسخت بقوة فى أذهان كل من إسرائيل وخصومها العرب، منذ حرب الأيام الستة.. لهذا السبب وعلى الرغم من أن الجيش الإسرائيلى تمكن من استعادة توازنه خلال المرحلة الثانية من الحرب، بقيت حرب 1973 فى الأذهان على أنها نصر أكتوبر المجيد بالنسبة للمصريين، وكارثة يوم الغفران بالنسبة للإسرائيليين. راجعت إسرائيل حساباتها، وكانت هذه الوقفة مع النفس هى التى أفسحت المجال لمعسكر السلام.. لقد أدرك الإسرائيليون أن التفوق العسكرى وحده لا يمكن أن يضمن بقاء الدولة اليهودية؛ أما المصريون فقد كان باستطاعتهم أخيرًا أن يتطلعوا إلى سلام شامل وعادل بعد محو الإهانة التى جلبتها نكسة 1967. ومن الملفت أيضًا أن صقور حرب أكتوبر هم بالتحديد الذين صنعوا السلام بعد الحرب: الرئيس السادات ونائبه (خليفته المقبل) مبارك، من الجانب المصرى وبيجن وشامير من الليكود من الجانب الإسرائيلي. وضع السادات وبيجن حجر الأساس لصرح السلام فى الشرق الأوسط، من خلال اتفاقيات كامب ديفيد فى سبتمبر 1978 وقام رفقاؤهم وحلفاؤهم، مبارك وشامير، بدور رائد فى الحفاظ على هذا الصرح من خلال عملية السلام العربى الإسرائيلي، والتى نشأت فى مؤتمر مدريد فى أكتوبر1991 ، ووصلت إلى قمتها فى اتفاقات أوسلو فى سبتمبر 1993. وعلى الرغم من الاضطرابات التى مرت بها عملية السلام، خاصة منذ اغتيال إسحق رابين فى نوفمبر 1995، فإن دور مصر الرئيسى كقوة السلام وحارسته و«محور اعتدال عربي» لا يمكن إنكاره مطلقًا. هذا الدور المعتدل لمصر لا غنى عنه فى نظر الإسرائيليين والدول الغربية، لا سيما وأنه بالإضافة للقضايا التقليدية فى الصراع العربى الإسرائيلى (القضية الفلسطينية، واحتلال الجولان السوري، والتوغلات الإسرائيلية فى لبنان.. إلخ) هناك قضايا جديدة طرحت نفسها على المنطقة، مثل التهديد الجهادى المعروف للجميع منذ 11 سبتمبر 2001، والدور التوسعى لإيران من خلال دعمها لحزب الله وحماس، وهذه القضايا تُثير غضب إسرائيل وخصومها العرب.