بين كوكبة من المدن الباسلة التى عرفها تاريخ العالم وثقافاته تشمخ مدينة المنصورة في حضن دلتا مصر كواسطة العقد في ثقافة الفداء، فيما جاء العدوان الإرهابي الغادر الذي استهدف مقر مديرية أمن الدقهلية الواقع في قلب المدينة ليشكل نقطة فاصلة في حرب المصريين على الإرهاب. فالمنصورة التي عرفت بالانتصارات الفاصلة ضد أعداء الخارج سواء في زمن الحرب الصليبية وأسر لويس التاسع قائد الحملة الصليبية السابعة او حرب السادس من أكتوبر 1973 مكتوب لها فيما يبدو أن تكون صاحبة الجولة الفاصلة في الحرب ضد الإرهاب وقطع دابر هذا العدو في ربوع مصر المحروسة كلها. وفيما يتناول روبرت بارليت في كتابه الجديد بالإنجليزية :"لماذا يصنع الموتى أشياء عظيمة؟..من الشهداء إلى الاصلاح" مفهوم الشهادة وتأثير الشهداء الفاعل في اي مجتمع على اختلاف السياقات الثقافية بين المجتمعات والحضارات فإن شهداء المنصورة في نهاية هذا العام الذي يستعد للرحيل باقون أبدا في وجدان مصر وذاكرتها ويشكلون بحق مددا لاينفد في ثقافة الفداء والحرب التي كتبت على ارض الكنانة في موجهة عدوان الارهاب الباغي. وإذا كانت العديد من الكتب تصدر تباعا حول تلك المدن الباسلة او مدن الكبرياء والوجوه النبيلة المستعصية على الاستسلام للمعتدى مثل ستالينجراد السوفييتية ولندن فى الحرب العالمية الثانية فإن ثمة حاجة ملحة لسد النقص الواضح فى المكتبة المصرية والعربية التى تعانى من قلة الكتب التى تتحدث بصورة متعمقة ومحكمة عن مدن مقاومة مثل المنصورةوالسويسوبور سعيد ورشيد. والأمر ينسحب ايضا على الحروب التاريخية التي خاضتها مصر منذ زمن بعيد وهاهو كتاب جديد صدر بالانجليزية في نهاية هذا العام تحت عنوان " بريطانيا ضد نابليون" لروجر نايت ليناقش وبستكشف مجددا تفاصيل المواجة التي انتهت بهزيمة نابليون وجيشه امام الانجليز في معركة واترلو الشهيرة. وكما هو الحال في معركة المنصورة مع الصليبيين او معركة واترلو فهناك دوما مجموعة من أبطال مجهولين وذلك مايفعله روجر نايت في هذا الكتاب الجديد الذي ينقب ويبحث بين عامي 1793 و1815 عن الأبطال المجهولين وسبل اعداد انجلترا للنصر في هذه المعركة الفاصلة دون الاكتفاء تمجيد قائد المعركة الجنرال البريطاني ويلنجتون. ويبدو أن قدر المنصورة التي خاضت معركة فاصلة مع العدو الخارجي أن تخوض معارك كبرى دوما مع أعداء الداخل والخارج وهي التي اقترن اسمها ايضا بمعركة جوية كبرى اثناء حرب السادس من اكتوبر اسفرت عن اسقاط 17 طائرة حربية اسرائيلية ليتحول يوم 14 اكتوبر 1973 الى عيد للقوات الجوية تحتفل به كل عام. فهذه المدينة الباسلة التي تطل على الضفة الشرقية لفرع دمياط بنهر النيل وتبعد بمسافة 120 كيلومترا شمال شرق القاهرة اقترن اسمها بالمعارك الكبري والانتصارات المصرية بقدر ماقدمت اسهامات مجيدة للثقافة المصرية في سياق النبوغ الابداعي لأبناء محافظة الدقهلية حيث تتوهج اسماء في قامة ووزن ام كلثوم وأنيس منصور والقاص الدكتور محمد المخزنجي . ولم يكن من قبيل الصدفة أن تصل أثار العدوان الارهابي الغادر لمسرح المنصورة القومي الذي وقفت على خشبته ذات يوم سيدة الغناء العربي ام كلثوم كما شهد مسرحيات لعمالقة الفن المصري مثل يوسف وهبي وامينة رزق وسميحة ايوب. في مدائن مصر الباسلة لن تجد كثير اختلافات في الجوهر بين المنصورة المجاهدة والسويس مدينة الأبطال وبورسعيد المقاومة وكل بقعة وشبر في التراب الوطني المصري في رحلة المسير والمصير والنضال عبر العصور ومقاومة الاحتلال الخارجي وأعداء الداخل الذين قد يفوقوا أعداء الخارج في الغدر وهم دوما في تحالف آثم ومحاور للشر . والمنصورة تمثل صورة حية لصلابة رجال الشرطة تماما كما عبرت السويس في حرب السادس من أكتوبر عن صلابة وفدائية الجندى المصرى في الجيش الوطني وتكاتف ابناء مصر الشرفاء فى صد الهجمات الشرسة للعدوان. وتلك اللحظات الفاصلة على الرغم من كل ماقد تثيره التضحيات من أحزان على هؤلاء الذين رحلوا عن الحياة الدنيا وهم في زهرة العمر وشرخ الشباب تبقى ترياقا يعالج الكثير من جوانب الأزمة التى عانت منها مصر فى السنوات الأخيرة لغياب القدوة ومايوصف "بالانقلاب القيمى" حيث غابت بعض القيم النبيلة التى كانت تسود المجتمع المصرى مثل الايثار وانكار الذات والحب والاحترام بين الناس. ومن هنا لابد من تقديم ابطال المنصورة وقصص شهداءها..هؤلاء الأبطال البسطاء الذين اختاروا قدرهم وحملوا ارواحهم على اكفهم لتكون المدينة نقطة بداية النهاية للمعتدى الارهابي تماما كما كانت السويس يوم الرابع والعشرين من اكتوبر 1973في مواجهة الغاصب الاسرائيلي وكما كانت بور سعيد في حرب العدوان الثلاثي عام 1956 . في اوقات كهذه ينبغي ثقافيا تقديم بعض النماذج فى مدينة المنصورة تماما واضاءة اسماء شهداء مثل العقيد سامح سعودي والمقدم محمد زين والمجند احمد صبحي كما كان علي الثقافة المصرية ان تقدم هذه النماذج اثناء معركة 24 اكتوبر 1973 في السويس حيث كان كل من داخل المدينة بطلا وعظيما فيما تحتفظ الذاكرة الثقافية الوطنية المصرية بأسماء لشهداء ابرار في معركة السويس مثل:" احمد ابو هاشم ومصطفى ابو هاشم ومحمد ايوب وسعيد البشتلى واشرف عبد الدايم وابراهيم محمد يوسف وكثير غيرهم من شهداء هم احياء عند ربهم يرزقون. وكان محافظ الغربية اللواء محمد نعيم قد صرح بأنه تقرر اطلاق اسماء خمسة شهداء في الحادث الارهابي الذي استهدف نديرية امن الدقهلية وهم من ابناء محافظة الغربية على شوارع ومراكز شباب ومدارس في محافظة الغربية. وفى مقابل الندرة الواضحة في مصر للكتب التى تتحدث بصورة موضوعية ومتعمقة حول المدن الباسلة كالمنصورةوبور سعيدوالسويس والاسماعيلية ورشيد-لاتتوقف المكتبات فى الغرب عن استقبال الكتب الجديدة حول الحروب والمدن الباسلة والصامدة. ومن الكتب الجديدة التى تتوالى فى المكتبة الغربية حول الحروب كتاب لماكس هاستينج بعنوان:"وانفتحت كل ابواب الجحيم..العالم فى حرب 1939-1945" وهو كتاب مشوق عن الحرب العالمية الثانية التى قتل فيها نحو 50 مليون شخص فيما يمزج بين التاريخ وعلم النفس ويشرح "النفسية العدوانية" وذهنية العدوان التى تتوق دوما للاغتصاب والاحتلال. برؤية متعاطفة مع الانسانية وتركيز على البشر العاديين وتجاربهم- يدرس ماكس هاستينج احوال العالم فى سنوات الحرب مابين 1939 و1945 عندما انفتحت ابواب الجحيم وتوالت المشاهد الدامية وراحت الأمهات فى دولة كالاتحاد السوفييتى السابق تبحث عن الأبناء بين اشلاء القتلى فى المعارك. وتبدو ستالينجراد نقطة محورية فى هذا الكتاب حيث يؤكد ماكس هاستينج وهو مؤرخ وعمل من قبل فى الصحافة البريطانية انه لو لم تستعص هذه المدينة وتبدع فى مقاومتها لسقطت اوروبا كلها فى قبضة الاحتلال النازى الألمانى. السرد بريطانى فى هذا الكتاب بالتأكيد ويعبر عن رؤية بريطانية فى نهاية المطاف لحدث كونى قتل فيه ملايين البشر ومع ذلك فان مهنية الكاتب وامانة المؤرخ والتزام الباحث كلها تتجلى فى قول ماكس هاستينج ان الحرب العالمية الثانية حسمت على الجبهة الشرقية وعند ستالينجراد الصامدة اما بقية الجبهات الأوروبية فكانت هامشية قياسا على ماجرى فى هذه الجبهة. هنا في المنصورة التي سجن فيها لويس التاسع ملك فرنسا وقائد الحملة الصليبية السابعة على مصر لمدة عام حتى اطلق سراحه في السابع من مايو عام 1250 ثمة حاجة لكثير من السرد المصري والجهد الثقافي الوطني والكتب ذات المستوى الرفيع الجديرة بتاريخ وواقع المدينة. واذا كان ماكس هاستينج قد تحدث فى كتابه عن ابواب الجحيم فان ثمة شهادات اسرائيلية بشأن "مدينة الأشباح التى فتحت ابواب جهنم" للقوات الاسرائيلية عندما اقدمت على محاولة احتلال السويس الباسلة اما تلك الفئة الضالة من الارهابيين الذين سعوا لفتح ابواب الجحيم في المنصورة فقد خاب ظنهم وضل سعيهم. فهذه المدينة تنتمي لما يعرف تاريخيا بالمدن االمستعصية على مهاجميها مثل عكا التى استعصت على القائد الفرنسى الشهير نابليون بونابرت وستالينجراد التى استعصت على هتلر والسويس التي استعصت على الاسرائيليين وستظل المنصورة درة للمقاومة ضد المعتدين سواء جاؤوا من الخارج او تسللوا من الداخل في الحرب الجديدة القديمة مع الارهاب الغادر. تصدر الكتب حتى اليوم عن حروب قديمة للغاية لأن الحرب بطبيعتها حدث عظيم يثير مخيلة الكبار والصغار كما تتناول الكتب الصادرة فى الغرب جوانب متعددة ولافتة بشأن الجيوش وهاهو كتاب جديد اخر يصدر بالانجليزية بعنوان "الجنود" للمؤرخ العسكرى ادوارد ريتشارد هولمز ويتناول تركيبة الجيش البريطانى الذى يقترب حجمه من نسبة الواحد فى المائة من مجموع عدد السكان فى بريطانيا. ويقول هولمز فى كتابه الجديد والأخير- لأنه توفى بعد ظهور هذا الكتاب- ان واحدا من بين كل 70 بريطانيا له قريب وثيق الصلة يخدم داخل جيشنا اما مسألة الحروب فهى شأن عام يهم الجميع جيشا وشعبا ولعلها حقيقة تنطبق ايضا على بلد مثل مصر. البطولة فى معناها الأسمى تعنى ان يحمل كل انسان سلاحه مهما كان هذا السلاح ليقاتل باخلاص وصدق فى مجاله فالكاتب يقاتل بقلمه والفلاح يقاتل بفأسه والطبيب يقاتل بمبضعه واذا كانت مدينة وارسو البولندية هى اكثر المدن الأوروبية التى تعرضت للدمار اثناء الحرب العالمية الثانية فان المنصورة لن تنسى التفجير الارهابي الجبان الذي اودى بأرواح ثلة من الأبناء الأبرار لهذا الوطن. ولأنها حرب بكل معنى الكلمة فالحرب على الارهاب التي دخلت مرحلة حاسمة بواقعة المنصورة ليست ابدا بالسهلة ولاتقل خطورة وحاجة للحشد والتعبئة وتضافر كل الجهود في المجتمع عن الحروب التي تخوضها الجيوش والتي عرفت المنصورة ايضا معناها ومتطلباتها. هل سيأتي يوم ما يتصدى فيه مؤرخ لتأثير واقعة العدوان الارهابي الغادر على مديرية امن الدقهلية على مسار ومجريات الحرب التي تخوضها مصر الآن ضد الارهاب؟..هذا سيحدث يوما ما وسيدرك الأبناء والأحفاد ان مدينة باسلة دوما دفعت ثمن الحرب الشرسة مع عدو لايعرف دينا ولايحترم اي قيم نبيلة..سيقول التاريخ ان مصر انتصرت على الارهاب بفضل المنصورة وشهداءها الأبرار. حكايات المنصورة ليست اساطير وخرافات مختلقة وانما هي واقع وتاريخ يتجاوز الأسطورة !..براح حرية وعشق مصري ومواويل في حب مصر المحروسة..الصبا والجمال وطقوس الطيبين ونيل يعانقها ويكفكف دموعها في لحظة الدهشة المؤلمة للضربة الغادرة..الغدر ليس ابدا من المنصورة..انما المدينة منذورة لمواقيت الفداء. رغم تباريح الألم ونباح قناة فضائية مسعورة ستبقى المنصورة منصورة..وجهها الجميل لامع الآن بدموع غالية على كل المصريين..لكن طيور النور لن تغادر المنصورة ولن تستسلم ابدا لغربان الظلام..تراتيل الصبح والليل باقية هنا..ايها الشهيد:يامن تذهب ستعود..يامن تمضي سوف تبعث فالمجد لك..المجد لك وانت تقول لخالقك الواحد الأحد: لقد امرتني فجئت.