ربما لا يتذكر أحد ما مصطلح "القيادة الألمانية الفرنسية" للاتحاد الأوروبي قبل عشر سنوات، حينما كانت القرارات التي تتعلق بمستقبل الاتحاد الأوروبي تتم بالتشاور بين ألمانياوفرنسا، لكن العقد الأخير الذي شهد أزمة اقتصادية لم ترحم فرنسا، جعل ألمانيا هي اللاعب الأقوى على الساحة الأوروبية، وأصبحت برلين تفرض رؤيتها على الاتحاد الأوروبي وهيئاته في بروكسل. كما كان وزراء المالية والاقتصاد الأوروبيون يقومون بالحج إلى ألمانيا للحصول على مباركة "ميركل" وحكومتها على الميزانيات والسياسات التي تعتزم اتخاذها، وفي نفس الوقت يطالبون بتخفيف المطالب الألمانية فيما يتعلق بالسياسات التقشفية وخفض النفقات العامة. الآن.. وبعد أن قامت "أنجيلا ميركل" - المستشارة الألمانية - بالسفر إلى العاصمة الفرنسية باريس بعد ساعات من حلفها اليمين الدستورية أمام البرلمان الألماني كمستشارة للسنوات الأربع القادمات، يبدو واضحا أن الكلمات اللطيفة حول التحالف الألماني الفرنسي وأهمية العلاقة بين البلدين لا تعني سوى أن ألمانيا هي الحاكم الحقيقي في أوروبا، وفي العلاقة الثنائية مع باريس. آخر معارك "ميركل" في الاتحاد الأوروبي فيما يختص بالوحدة البنكية، تؤكد هذه الرؤية رغم مطالبة الكثيرين من أعضاء منطقة اليورو بخضوع صندوق الإنقاذ الأوروبي لإدارة بروكسل مباشرة، إلا أن ميركل فرضت قرارها بخضوع الصندوق لإدارة مشتركة بين بروكسل والدول المساهمة بأموالها فيه - وألمانيا هي من تضع الأموال - إذن فهذا الصندوق يخضع لألمانيا بشكل أو آخر. سافرت "ميركل" إلى باريس لأهداف محددة تريد من فرنسا أن تساندها للوصول إليها، فترى المستشارة الألمانية أن التقدم في إجراءات الوحدة الأوروبية، مثل الوصول إلى سياسة دفاعية مشتركة وسياسة خارجية موحّدة، أمر لا يمكن تحقيقه في ظل المعاهدات الحالية، وما تطلبه "ميركل" هو أن تتم مراجعة الاتفاقيات والمعاهدات الموقعة بين دول الاتحاد الأوروبي من أجل التقدم بالوحدة الأوروبية. وقالت المستشارة الألمانية، قبل أن تصعد إلى الطائرة التي أقلتها إلى باريس: "من يريدون رؤية أوروبا أكبر وأكثر وحدة، يجب عليهم أن يفعلوا شيئا، لا أعتقد أنه من الممكن تطوير الاتحاد الأوروبي في ظل الاتفاقيات الحالية". ما تريده أنجيلا ميركل ينحصر في أمرين يخشى الساسة الأوروبيون - وعلى الأخص الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند من التطرق إليهما - الأول هو تنازل الدول الأعضاء عن الكثير من صلاحياتها الاقتصادية والمالية، والأمر الثاني هو توقيع الدول الأكثر فقرا وضعفا في أوروبا على ما يشبه التعاقد أو الالتزام بتنفيذ سياسيات تنافسية ترقى إلى مستوى السياسات المطبقة في ألمانيا. يأتي الضغط الألماني على فرنسا وبقية دول الاتحاد الأوروبي في لحظة شديدة الحساسية تجاه كل ما يتعلق بألمانيا ودورها في الاتحاد، خاصة وأن الانتخابات البرلمانية الأوروبية ستجري في مايو القادم مع ارتفاع نسبة الرافضين لفكرة أوروبا الموحدة بين المواطنين، ومع نمو الأحزاب اليمينية والحركات القومية والمعادية للأجانب في فرنسا فقط، التي بلغت نسبة الرفض بها ما يقرب من 70%، وهو ما يعني وصول أحزاب معادية لفكرة أوروبا الموحدة إلى البرلمان الأوروبي، إنه كابوس لفرنسا وللدول الصغيرة وصاحبة الاقتصادات الهشّة، ولا تبدو ألمانيا ذاتها مشغولة بهذا، فنتائج الانتخابات الأخيرة التي فازت فيها ميركل، وجاء الحزب الاشتراكي الألماني في المركز الثاني، تشير إلى فوز مريح لفكرة أوروبا بين الألمان، بالإضافة إلى أن إصرار ميركل على عقد تحالف في الحكومة مع الحزب الاشتراكي الألماني، وتقديم التنازلات من أجل هذا، يروج لألمانيا قوية في قلب الاتحاد الأوروبي، بقدر ما يثير مخاوف الحكومات الأوروبية والشعوب أيضا، من أن التحالف بين الحزبين الكبيرين في الحكومة الألمانية، يعني أن السياسات تجاه أوروبا خلال السنوات الخمس عشرة القادمة ستكون في نفس الاتجاه، بغض النظر عن أسماء الساسة أو الأحزاب، أي أنه يعني المزيد من الهيمنة الألمانية على الاتحاد ودوله. اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي المقرر له أن يكون اليوم الجمعة في بروكسل، سيتناول أمور مشروع الدفاع الأوروبي المشترك، بينما تسعى فرنسا إلى الضغط على بريطانيا مجدَّداً في موضوع الوحدة الاقتصادية والعملة، لكن بلا قوة حقيقية تساندها في ظل ضعف موقفها وعدم اهتمام ميركل بهذا الأمر، كما تعارض ألمانيا مناقشة ميزانية موحدة لمنطقة اليورو قبل توقيع الدول الأضعف على تعهدات بتطبيق إصلاحات وإجراءات تقشفية جديدة لخفض العجز في الموازنة، وهذا هو الفارق بين طريقة تفكير وعمل ألمانياوفرنسا تجاه الاتحاد الأوروبي، بينما ترغب فرنسا في الخروج من الأزمة الاقتصادية أولا "هي وباقي الدول"، وبعد ذلك اتخاذ المزيد من الخطوات نحو الوحدة الأوروبية، وغرضها هو إقناع المواطنين بأن الوجود في أوروبا الموحدة ميزة وليس عبئا، لكن ألمانيا لها وجهة نظرة أخرى وطريقة مختلفة، حيث ترى ألمانيا أن مراجعة وتعديل الاتفاقيات الأوروبية هما السبيل الوحيد لتحقيق المزيد من الوحدة بشكل واقعي وعلى أرض صلبة.