فى إطار مناقشة احتمالات التحالفات والاندماجات داخل التيار الديمقراطى، ناقشنا فى المقال السابق هذه الاحتمالات داخل الاتجاهين القومى – الناصري واليساري، وسنحاول في هذا المقال مناقشة احتمالات الاندماجات والتحالفات داخل الاتجاهين الليبرالى والديمقراطى الاجتماعى. فى البداية ينبغى أن نلاحظ أن هناك من يرى أن الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية وهى بالتحديد : الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى، وحزب العدل، وحزب الدستور، هى أحزاب ليبرالية، وأغلب الظن أن القائلين بذلك يقصدون، بوصف الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، بل والأحزاب القومية – الناصرية واليسارية أيضًا، بأنها أحزاب ليبرالية، أنها أحزاب مدنية أو علمانية أو أحزاب ضد الدولة الدينية، وقد جرى استخدام تعبير ليبرالي، وعلى نطاق واسع للإشارة إلى كل من كان ضد الإخوان ومع دولة ديمقراطية مدنية حديثة، وقد بلغ اقتناع قطاعات واسعة من الجمهور بذلك إلى حد استنكارهم واستيائهم من وجود أحزاب "ليبرالية" كثيرة بدون مناسبة !، حيث اعتبروا ذلك دليلًا على انقسام "الليبراليين" بصور غير مبررة وغير مقبولة، بل ووصل الأمر فى تفسير هذه التعددية داخل ما اعتبروه "التيار الليبرالى" إلى حد اتهام قيادات الأحزاب "الليبرالية" بأنها تعمل من أجل مصالحها وبشكل شللى وأن عليها جميعًا أن تندمج ! وإذا كان هناك بعض الصعوبة فى أن نشرح للجمهور الوافد حديثًا إلى المجال السياسى الفرق بين القوميين واليساريين من جهة، وبين الليبراليين والديمقراطيين الاجتماعيين من جهة أخرى، على اعتبار أن كلهم عند خصوم الإخوان، ليبراليون ومدنيون، فإن هذه الصعوبة تزداد للغاية إذا حاولت أن تشرح لهذا الجمهور نفسه الفرق بين الليبراليين وبين الديمقراطيين الاجتماعيين، لأننا علينا أن نعترف بالفعل أن طبيعة الديمقراطية الاجتماعية تتقاطع ليس فقط مع الليبرالية لكنها تتقاطع أيضًا مع اليسار، وداخل الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية فى العالم كله هناك تيارات يمينية تنفتح على الأحزاب الليبرالية، وهناك أيضًا تيارات يسارية تنفتح على الأحزاب اليسارية. ومن الممكن للأحزاب الديمقراطية الاجتماعية أن تستند على هذا التنوع والتعدد لكى تصبح رُمانة الميزان فى المجتمع، والقوى القادرة على بناء جسور وربما تحالفات انتخابية أو برلمانية أو ائتلافية حكومية مع أطراف مختلفة تقع على يمينها أحيانًا أو تقع على يسارها أحيانًا أخرى، تبعًا لمقتضيات الحال والظروف، ومن الممكن أيضًا أن يفضي هذا التنوع أو التعدد نفسه إلى تباعد داخلها بين اتجهاتها المختلفة اليمينية واليسارية، وبالذات إذا تعرض تعرضت هذه الاتجاهات لضغوط من الأحزاب الواقعة على يمينها أو يسارها، وإذا نجحت هذه الضغوط فى دفع الاتجاهات المختلفة داخلها إلى البعد بدرجة كبيرة عن جوهر فكرة الديمقراطية الاجتماعية التى تزعم أنها قادرة على الجمع بين محاسن الفكرة الليبرالية وإنجازاتها التاريخية والفكرية وبين محاسن الفكرة الاشتراكية وإنجازاتها التاريخية والفكرية. إن وضع الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية فى خانة واحدة، والذى يمتد أحيانًا ليضع القوميين واليساريين أيضًا فى نفس الخانة، له عدة أسباب أهمها، وكما ذكرنا من قبل، أن الاستقطاب الدينى – المدنى أطلق عليه أحيانًا من قبل جمهور سياسي محدود الخبرة والثقافة استقطاب دينى – ليبرالى، أما السبب الرئيسى الآخر فإنه يتعلق بأن بعضًا من الوافدين الجدد على المجال السياسى وفى قلب الأحزاب الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية نفسها، بل فى القلب من قياداتها أيضاً، لا يدركون الفرق بين الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية، حتى أن بعضاً ممن يعتبرون أنفسهم ليبراليين داخل الأحزاب الليبرالية يرددون فى بعض الأحيان، وبالذات فى الأمور السياسية والثقافية، أفكار وتصورات شبه فاشية، بينما نرى بعضًا ممن يعتبرون أنفسهم ديمقراطيين اجتماعيين داخل الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية يتبنون، فى بعض الأحيان، وبالذات فى بعض الأمور الاقتصادية أفكار وتصورات أقرب إلى الليبرالية الجديدة أو الرأسمالية المتوحشة. بعيدًا عن خلط الأوراق والمفاهيم هناك فى مصر أحزاب ليبرالية أو بالأحرى أقرب إلى أن تكون ليبرالية وهى أساسًا أحزاب الوفد والمصريين الأحرار بالإضافة إلى مجموعات أخرى مثل الجبهة الديمقراطية، وهذه الأحزاب يتصدرها الوفد بكل وزنه التاريخى الذى لا يُقارن بأى حزب مدنى آخر، ورغم أن الكثير من المحللين والمراقبين يرون أن قيادة السيد البدوي لحزب الوفد نالت إلى حد ما من وزنه وجاذبيته، إلا أنه لا يزال، بكل تأكيد الحزب الليبرالى الأكبر والأهم والأكثر انتشارًا فى ربوع مصر، والوفد، ولهذه الاعتبارات تحديدًا، من الممكن أن يقبل انضمام أحزاب أخرى له لكنه لن يقبل أى اندماج أو حتى تحالف انتخابي يدفعه إلى تغيير اسمه مثلاً، وفى المقابل فإن اتجاه قوى داخل المصريين الأحرار يرى أنه حزب ولد من رحم الثورة، فيما ينتمي الوفد إلى عصر مبارك، وبالإضافة إلى ذلك فإن حزب المصريين الأحرار استنادًا على أن مؤسسه هو رجل الأعمال القبطى الناجح نجيب ساويرس يعتبر نفسه الحزب الجديد الأكثر جاذبية لرجال الأعمال، والأكثر قدرة على الحصول على أصوات الأقباط. اعتزاز الوفد باسمه وتاريخه باعتباره الحزب الأكبر والأهم داخل الأحزاب المدنية بصفة عامة والليبرالية بصفة خاصة لن يدفعه إلى تقديم أى تنازلات تُذكر لأية أحزاب ليبرالية أو مدنية أخرى بغرض الاندماج أو التحالف، ولذلك فهو يطرح التحالف الانتخابي على قوائمه وبنسب تستند على نتائج الانتخابات البرلمانية السابقة التى حصل فيها بمفرده على 41 مقعدًا، فيما حصلت أحزاب الكتلة والثورة مستمرة معًا، وهى الأحزاب المدنية، باستثناء الوفد، وبكل تياراتها، على نفس العدد تقريبًا من المقاعد، والمصريين الأحرار من ناحيتهم يعتبرون أنفسهم حزبًا ثوريًا وواعدًا ولن يقبلوا الذوبان فى الوفد، واحتمالات التحالف الانتخابى بينهما تظل مرهونة باعتبارات كثيرة لعل أهمها أن تنجح القوى المدنية فى بناء تحالف واسع وليس ليبرالى فحسب. بالنسبة للقوى الديمقراطية الاجتماعية اندمج بالفعل التيار الرئيسى من حزب العدل مع الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى، وأعتقد أن الجهود المبذولة الآن بين الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى وحزب الدستور ستنجح فى تحقيق اندماج بينهما، ولكن هذا فقط ليس طموح الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى الذى يرى الاتجاه الرئيسى داخله ضرورة الوصول إلى صيغة اندماجية مع المصريين الأحرار من خلال تذليل المصاعب الفكرية السياسية بالإضافة للمصاعب التنظيمية، ولو لم تُكلل هذه الجهود بالنجاح فعلى الأقل هناك إجماع داخل الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي على ضرورة الوصول إلى تحالف انتخابي واسع تكون ركيزته الأساسية هي أحزاب الوفد والمصريين الأحرار والمصري الديمقراطي الاجتماعي، وأعتقد أن هناك اتجاهًا لا يُستهان به داخل المصريين الأحرار وداخل الوفد يتبنى هذه الفكرة، والأمر فى حاجة إلى جهود كبيرة ومُخلصة للوصول إلى اتفاق من هذا النوع، وإذا خلصت النوايا ربما يكون دمج الناصريين واليساريين فى هذا التحالف المدنى الديمقراطى أمر ممكن بل وضروري أيضًا ليس فى مواجهة الإسلام السياسى فحسب، ولكن فى مواجهة الاتجاهات التى تحاول إعادة بناء الدولة الأمنية القديمة أيضًا.