كبرت وأنا أسمع أبى يتحدث بكل فخر أمامى وأمام إخوتى وأمى عن نزوات الشباب وعلاقات المراهقة وتجاربه مع السجائر والسهر والخمور، التى تسببت فى رسوبه لأكثر من عام وتأخره عن التخرج فى جامعته. ولكن عندما كبرنا نحن، أصبح الوضع مختلفا بشكل جذرى، إذ إن أبى اتجه إلى التشدد الدينى بقسوة، وأصبح يحاسبنا على كل شاردة وواردة بكل شدة، أصبح عنيفا فظا غليظ القلب، يجبرنا على الصلاة والصيام وقيام الليل بطريقة منفرة قد تصل إلى مرحلة الإهانة، وربما الضرب المبرح. لن أنسى ذلك اليوم ماحييت، كنت فى الصف الثانى الإعدادى، وجالسة فى غرفتى أستذكر دروسى، دخل والدى على وسألنى إن كنت قد صليت صلاة المغرب، بصراحة شديدة كنت متكاسلة وأردت أن أتخلص من إلحاحه، فكذبت عليه وقلت له إننى فى بداية الدورة الشهرية ولن أستطيع الصلاة. لم ينطق بكلمة، ولكنه ذهب عنى وغاب قليلا، ليعود حاملا فى يده «خرطوما» قديما من جهاز الغسالة القديم الذى تركته جدتى التى تسكن معنا فى نفس المنزل على سطح العقار، واجتذبنى من شعرى بكل غل، وجرجرنى على أرضية المنزل حتى باب البيت، وأمام شقتنا انهال على جسدى بالخرطوم وهو يسبنى بعلو صوته ويصفنى بالكاذبة، وينادى على بنات عمى الذين يسكنون معنا فى نفس البيت وجدتى وإخوتى وأمى ليشهدوا ذلك المشهد المؤلم ويزيد من إهانتى. أستطيع أن أجزم لك يا دكتورة أننى منذ ذلك اليوم لم أصل أبدا صلاة حقيقية، كنت أتظاهر أنى أصلى أمامه من شدة الخوف ولا أعلم ماذا أقرأ ولا أشعر بأى شىء سوى أننى أفعل شيئا رغما عنى. كما أن أبى ظل يراقبنى أكثر ويحسب لى فترة الدورة الشهرية باليوم والليلة، ويراقب فى سلة المهملات ما إذا كنت استعمل فوطا صحية أم توقفت، لدرجة أننى كنت أشترى مايكروكروم وأضعه فى الفوط الصحية الخالية وألقيها فى سلة المهملات لكى أخدعه وأزيد من أيام انقطاعى عن الصلاة! والآن كبرت وتزوجت وابتعدت عنه تماما، ولكننى لم أصل ركعة واحدة منذ خروجى من منزله، وزوجى رجل حكيم ولا يجبرنى أبدا على أى شىء، ولكننى من عمق جراحى وبؤس ذكرياتى أتلذذ بأن أخبر أبى كلما ذهبت إليه أننى لا أصلى أبدا، وأستمتع بنظرة الإحباط التى تتملكه عندما يشعر بأن كل ما كان يفعله أتى بنتيجة عكسية تماما ولم يفلح فى هدايتى كما كان يتصور! (ض.م. المنصورة) الرد منذ أن أطل التشدد الدينى على حياتنا وأصبح يشكل علاقاتنا وسلوكياتنا فى المجتمع ومع الناس، وحتى مع أقرب المقربين تحولت حياتنا إلى مسرح من النفاق والرياء والتظاهر بالتقوى المزيفة، وأصبح الدين بالمظاهر والتعبد بالإجبار والدعوة إلى الله بالفظاظة والترهيب. لن أستطيع أن أجلدك أكثر من ذلك يا عزيزتى، فصوت جلدك بخرطوم الغسالة لا يزال يقرع بقوة فى مسامعى، ولكن إن طلبت منى النصيحة فسأنصحك أن تتخلى عن تلك الذكريات المتوحشة وأن تحاولى أن تتخطيها لأجلك أنت. لا أريدك يا صديقتى أن تقضى عمرك القادم وأنت تحاولين الثأر من أبيك بعدم الصلاة أو بأى شىء عكس ما كان يجبرك عليه، العلاقة مع الله أرقى وأسمى بكثير من أن تربطيها بشخص، ابدأى رحلتك الشخصية فى البحث عن الله والتقرب منه بطريقتك أنت، حافظى على سلامك الداخلى ونقاء سريرتك وجميل خصالك وحسن معاملتك للناس باللين والرفق والرحمة، حينها فقط ستشعرين بالرضا وستتخلصين من الموروث السيئ الذى زرعه أبوك بداخلك اعتقادا منه أنه يكفر عن ذنوبه السابقة فيك.