يبدو أن مجلة فورين بوليسى استبقت الأحداث ونشرت تقريرها حول توتر العلاقة بين الأقباط والسيسي، وأنه خذلهم ويشعرون بخيبة أمل بعد أن كانوا ينتظرون منه الكثير، إلا أن جريمة الكنيسة البطرسية رغم هولها والوجع الذى ضرب كل بيت مصرى وليس الأقباط فقط، تؤكد أن مكانة السيسى تراجعت لأسباب اقتصادية أو حقوقية وإنما يظل وحده هو من أعاد للأقباط شعورهم بأن مواطنين لا رعايا. فإعلان الحداد على ضحايا الحادث، ثم جنازة شعبية، كلها أمور لم تحدث فى السابق، رغم عشرات الجرائم الطائفية التى ارتكبت بحقهم، حتى أحداث كنيسة القديسين بالإسكندرية ليلة رأس السنة 2011، واعتداء أنصار الإخوان المسلمين على الكنائس بعد فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة فى يوليو 2013. ربما هناك ملاحظات سلبية على مشروع قانون بناء الكنائس، وربما هناك انتقادات لتراخى بعض المحافظين فى اللجوء إلى جلسات النصح العرفية على حساب تطبيق القانون، وإفلات الجناة من العقاب فى الجرائم الطائفية، وربما هناك من يرى مجاملة من الكنيسة وعلى رأسها البابا تواضروس للدولة والنظام على حساب الأقباط، إلا أن كل ذلك لن ينكر أن مكانة السيسى داخل قلوب الأقباط تظل بارزة، مقارنة برؤساء مصر السابقين، وهذه المقارنة تجلت فى صرخات سيدة بسيطة خرجت كلماتها عفوية عقب الحادث» . هما عاوزين نكره مصر والسيسى مش هيحصل، هنصلى فى الجامع هنصلى فى الشارع وبنحبك يا سيسي». فالذاكرة حاضرة برد فعل القوات المسلحة على واقعة ذبح المصريين بليبيا، وربما لو كانت حدثت فى فترة حكم رئيس آخر ما كانت تحركت الدولة، وهو ما ترصده الذاكرة وتحترمه وتقدره، وإذا أضفنا تهنئته للأقباط بعيد الميلاد بالكاتدرائية فى خطوة لم يقدم عليها أى رئيس مصرى من قبل، بل واعتذراه عن تأخر ترميم وتجديد الكنائس التى تضررت عقب عزل محمد مرسى وفض الاعتصامات سنعرف لماذا يحمل الأقباط مكانة خاصة للسيسي. كل هذه المواقف تجيب لماذا يظل للسيسى مكانته فى قلوب الأقباط مهما تكاثرت الأحداث، ولكن.... على الرئيس السيسى متابعة ملف الكنائس المتضررة قبل أعياد الميلاد فى يناير القادم، فليس من اللائق أن يعتذر الرئيس مجددا عن تأخر الكنائس، وعليه التعامل بحزم مع من يعرقلون تنفيذ تعليماته، مثلما عليه ملاحقة من يعرقلون قرارات جمهورية لبناء وترميم كنائس، ما يصنع توترا بين الدولة والأقباط. وعلى الحكومة التعامل بحكمة وحنكة مع ملف بناء الكنائس ووقف كل أشكال التمييز الدينى فى أجهزة الدولة، فهناك رصيد غير قليل يصنع احتقانا داخل نفوس الأقباط، ويشعرهم بأنهم مواطنون درجة ثانية نتيجة استبعادهم من تقلدهم عدد من المناصب مثل رؤساء الجامعات وعمادة الكليات بل وعدم القدرة على اختيار محافظ مسيحى بعد احتجاج أهالى قنا على اختيار آخر محافظ مسيحى قبل تجميد القرار. وعدم تكرار ذلك فيما بعد، ومن ثم كل هذه الأمور تؤجج المشاعر وتزيد من الغضب مع كل حادث إرهابي. أما من يحاولون انتقاد البابا تواضروس بزعم مجاملته للسيسى على حساب الأقباط، هؤلاء عليهم قراءة المشهد، فالبابا تواضروس يتبع تعليمات الإنجيل، أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وبيان الكنيسة الرسمى عقب حادث كنيسة البطرسية حمل هذه النظرة، فالبيان طالب بالصلاة من أجل شهداء الحادث والمعتدين أيضا، تطبيقا لقول الإنجيل «لا تتمثل بالشر بل بالخير لأن من يصنع الخير هو من الله ومن يصنع الشر فلم يبصر الله»، فالرهان على استنساخ بطريرك برتبة زعيم لن تحدث، فحتى البابا شنودة المتنيح تغيرت معاملته مع الدولة ما قبل إقامته الجبرية فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون بعهد السادات 1981 وما بين خروجه لمقره بالقاهرة فى عهد مبارك 1985، فما بالك بتغيرات الأحداث وما مرت به مصر عقب ثورة يناير 2011؟! المواطنة الكاملة هى حلم كل قبطي، ولكن مع مثل هذه الجرائم الإرهابية لن تفلح فى زعزعة ثقتهم نحو الوصول لذلك، بل يزدادون أملا ورجاء، فالاستشهاد على اسم المسيح حلم يفوق المواطنة، لذلك عقب حادثتى القديسين بالإسكندرية 2011 والبطرسية 2016 كان الأقباط يحملون بداخلهم عزاء داخليا، لم تقو هذه الجرائم على زعزعة ثقتهم أو تدفعهم خوفا للهجرة أو البحث عن وطن آخر، فربما يرغب البعض فى تحسين أحواله المعيشية والانتقال لبلد آخر فى الظروف العادية، إنما مع هذا النوع من الإرهاب يفضلون التواجد فى وطنهم ومن خلاله إلى وطنهم الثانى فى السماء، لأنهم يدخلون باب الكنيسة ومنه لباب السماء، وهذا هو جوهر التعزية والسلام الداخلى الذى يتمتعون به ولا يفهمه الإرهابيون، فهم يهدفون لبث الفزع والخوف وسط الأقباط ودفعهم للصدام مع الدولة والوطن، بينما الأقباط تدفهم هذه الجرائم للتمسك أكثر بوطنهم وبدولتهم، وشعار كل قبطى كلى الحياة هى المسيح والموت هو ربح»، متمسكين بقول الكتاب المقدس «ادخلوا إلى فرح سيدكم رثوا الملك المعد لكم من قبل تأسيس العالم». كلمة أخيرة.. القصاص العادل هو مطلب كل قبطى وليس أهالى الضحايا فقط، وإفلات الجناة من العقاب يزيد الجروح ويشعل لهيب الغضب، ومن صوت شهيد استهدف، لأنه مسيحى إلى الجميع» نحن كنيسة شهداء، ونرتبط بالسماء أكثر من الأرض»، فإذا كان هناك من يدعو للقصاص فهو مطلب أرضى لترسيخ معالم دولة المواطنة والقانون، أما السماء فلها رد آخر لا يعرفه إلا أهالى الشهداء والمصابين، وهو قادم لا محالة!