مع تضارب التصريحات والمعطيات وتنافر الأهداف والمنطلقات ، يزداد ترقب التوصل إلى صيغة لبدء حوار وطنى فى مصر ضبابية ، فيما تزداد حدة التجاذبات الإعلامية والسياسية لتنتج المزيد من التعقيد والعنف والتوتر . ولم تلبث دعوة الحوار التى أطلقها ما يعرف ب " تحالف دعم الشرعية " الموالى لتنظيم الإخوان تظهر على السطح ، حتى ماتت فى مهدها بيد من أطلقها الذى رفض الإعتراف بشرعية الأوضاع القائمة ، تلك التى أنتجتها ثورة 30 يونيو ، معتبرا أن الإعتراف بما يسميه أوضاعا إنقلابية لا يمكن أن يكون أساسا لحوار ناجح . ولم تمضى ساعات على إعلان أحد قيادات التحالف الداعم للرئيس المعزول محمد مرسي " إن التحالف بدأ في تشكيل لجنة للتواصل السياسي مع الأحزاب والقوى الثورية لتفعيل دعوة الحوار، حتى أعلن الأمين العام لحزب العمل المنخرط في "التحالف الوطني لدعم الشرعية" مجدي قرقر أن " ردود الأفعال على دعوة التحالف إلى حوار وكل التصريحات التي خرجت من المسؤولين المصريين ، تشترط الموافقة على خريطة الطريق، ما يعني القبول بالانقلاب، وهو ما نرفضه" ، موضحا أن " هناك اتصالات جرت مع شخصيات حزبية بشكل فردي ، لكن لم نناقشها داخل التحالف ولم نقرر تشكيل لجان ،معتبرا أن كل ما طُرح لا يلبي مطالبنا " . وعلى الرغم من أن الدعوة للحوار يمكن إعتبارها تحولاً في موقف الإخوان وحلفائهم، إذ أنها لم تشر للمرة الأولى إلى مطلب عودة مرسي ،باعتبار أن عودة الشرعية لا تعني بالضرورة عودة مرسي إلى الحكم ،إلا أن عدم القبول بشرعية ثورة 30 يونيو وما أعقبها من تطورات وقف حجر عثرة أمام بدء الحوار قبل الإعتراف بخريطة الطريق التي يجرى تنفيذها حاليا باعتبارها بداية لعملية تحول ديمقراطى حقيقية أرادها الشعب ودعمها الجيش بعد عزل مرسى . ومع إختلاط دعوات الحوار المتعثرة بدماء أحداث العنف ، التى تشير أصابع الإتهام فيها إلى تنظيم الإخوان ومن يواليه من متشددين ينتمون لجمعات العنف الدينى ، تبدو الدعوة إلى حوار مثمر - رغم العثرات التى تعترضه - أمرا يستحق الدراسة ، وذلك على قاعدة أنه لا خصومة دائمة وأن العنف ينتج عنفا أشد . إلا أن عملية الحوار التى يراها فريق من القوى السياسية شرا مطلقا ، ويراها آخرون وسيلة ناجزة لوقف العنف الذى يذهب ضحيته مدنيون وعسكريون على حد سواء ، يجب أن تخضع لحسابات دقيقة مبنية على سيناريوهات محتملة ، تفسر معايير المكسب والخسارة وشروط النجاح والفشل وما يترتب على الحالتين من نتائج . فالمصريون الذى عاشوا منذ نحو ثلاثة عقود، في دوامة عنف متبادلة بين السلطة والجيش من جهة والجماعات المتطرفة من جهة أخرى ، يعيشون الآن في حالة ترقب وخوف تزيد من نبذهم لتلك الجماعات ، التى كتبت مذبحة الأقصر عام 1997 الفصل الأخير من مسلسل عنفهم ، فيما ينظرون بمزيد من القلق لجماعة "الإخوان " التى يعتبرونها بديلا فى لعب أدوار العنف في هذه المرحلة المشتعلة من تاريخهم . ولعل ما يعزز قناعات المصريين بشأن ضلوع الإخوان فى أعمال العنف ، تلك الموجة من العنف السياسي التى أودت بحياة حوالى ألف شخص بينهم رجال من الشرطة والجيش ، منذ عزل الرئيس محمد مرسي في 3 يوليو الماضى بعد خروج ملايين المصريين فى 30 يونيو تحت مظلة الجيش والمؤسسة الدينية " الأزهر والكنيسة " مطالبين برحيله . وبعد عزل مرسي تصاعدت هجمات المتشددين الذين ينتمون لتنظيمات إسلامية ، على أهداف للجيش والشرطة في محافظة سيناء فى البداية ، سرعان ما امتدت إلى محافظات أخرى ، حتى وصلت العاصمة نفسها عندما تعرض وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم لمحاولة اغتيال قرب مسكنه في حي مدينة نصر في سبتمبر الماضي ، فيما طالت عمليات الإغتيال أحد مسئولى النشاط الدينى بالأمن الوطنى مؤخرا ، وسط تسريبات صحفية بقوائم إغتيالات لمسئوليين سياسيين وأعلاميين مناوئين لحكم الإخوان . وفيما تفرض جماعة الإخوان وحلفاؤها شروطا للحوار تتطلب قبولا رسميا ، يبدو أن الدولة المصرية والقوى السياسية التى يجب أن تشارك فى الحوال ليست في موقع تقديم تنازلات، خاصة مع اقتراب انتهاء عملية التعديلات الدستورية التي يُتوقع الاستفتاء عليها قبل نهاية العام، في أول تنفيذ لبنود خريطة الطريق التي تم إقرارها بعد عزل مرسي . فالاستفتاء على الدستور يشكل اختباراً لشعبية الحكم الذى أنتجته ثورة 30 يونيو ، كما يمثل في حال نجاحه بداية جيدة لتجاوز أزمة الشرعية الدستورية وطي صفحة حكم "الإخوان" تماما ، وهو ما يعنى إستمرار الخصم من رصيد جماعة الإخوان التى باتت في وضع هو الأضعف منذ تصدرها المشهد السياسى عقب ثورة 25 يناير 2011 ، ظهر جليا بعد تراجع زخم التظاهرات وفشل الجماعة في اختبار الحشد بعد انتهاء العمل بحالة الطوارئ ورفع حظر التجول ، ولا يبدو الوضع السياسي للجماعة أفضل من وضعها الميداني، فبعد حل الجماعة بحكم قضائي أوصت أمس هيئة مفوضي المحكمة الإدارية العليا أمس بحل حزب الحرية والعدالة " الذراع السياسية للإخوان" . وفى إطار شعار الحرص على مصالح الوطن، التى يحاول الجميع العمل تحته ، فإن الواقع يشير إلى أن الدولة المصرية تشهد حربا شرسة من قبل جماعة الإخوان وحلفائها من جماعات العنف الديني، وفى كل الأحوال كما يقول التاريخ فان الدولة سوف تكسب معركتها في النهاية مع تلك التنظيمات ، ولكن ليس من دون آلام وخسائر، وهو ما يتطلب ترسيخ نموذج خاص في التعامل مع الأحزاب الدينية التي تشتغل بالسياسة. فالدولة المصرية وأجهزتها الأمنية والعسكرية تمتلك خبرة طويلة في مواجهة هذه الجماعات، وهي قادرة على القضاء عليها وإن احتاج الأمر لبعض الوقت، إلا أن المشكلة الأساسية ليست في المواجهة الداخلية مع هذه الجماعات التي تتبنى الإرهاب، ولكن مع الدول الداعمة لها والتي حاولت الضغط على الدولة المصرية ، لولا موقف الأشقاء العرب وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات والكويت ، الداعم للدولة المصرية بعد ثورة 30 يونيو التى أطاحب بحكم الإخوان . ولعل الرؤية المستقبلية للواقع المصرى لا تعطينا الكثير من الأمل بشأن إستقرار الأوضاع وتراجع العنف ، حتى فى حالة بدء حوار حقيقى فلن تهدأ الأمور ، حيث تتربص الجماعات المتطرفة بالدولة المصرية التى أطاحب بما يسمونه " المشروع الإسلامى" الذى كانت تروج له جماعة الإخوان ، وسوف تسعى تلك المجموعات إلى إثبات القوة والتأثير، في الوقت الذى تسعى جماعة الإخوان إلى تكريس الحضور الصاخب المصحوب بالزخم الدموى فى الشوارع ، ولكن مع توافق الأهداف والغايات بشأن إشاعة أجواء عدم الإستقرار فى البلاد . وفيما تمضى الأجهوة والقوى الوطنية المصرية في إعادة بناء الدولة الحديثة واستعادة الاستقرار وترسيخ الدولة الوطنية، وبسط هيبتها ومحاولة احتواء التيارات المؤيدة للجماعة أو المنشقة عنها، سوف تنشغل الجماعة في محاولات هدم كل ما سبق، فستسعى لنشر التخريب والدمار وستنشر فكرها الأممي العابر للحدود على حساب التوجهات الوطنية، وستستمر في تبني العنف والتحالف مع جماعاته، وستهاجم أي فصيل أو حزب يقبل بالأوضاع الجديدة ويتعايش معها، وستحاول تشويهه بشتى الوسائل والسبل، كما تفعل مع حزب النور السلفي على سبيل المثال. ومن المفيد للدولة المصرية حاليا ومستقبلا ضمن سبل تقزيم وإنهاء تيارات العنف الدينى حتى فى حالة وجود حوار وطنى ، أن تتجه الدولة إلى بناء تحالفات إقليمية مع الدول العربية التي وقفت إلى جانبها في المرحلة التاريخية التى بدأت بالخلاص من حكم جماعة الإخوان ، وتكثيف العلاقات مع الدول التي اتخذت مواقف سياسية صلبة في الدفاع عن خيار الشعب المصري في مواجهة الضغوط الغربية الداعمة للإخوان ،خاصة بعد أن قدمت هذه الدول دعما سخيا للاقتصاد المصري الذى بدأ يتجاوز أزمته. وإذا كان الإخوان يراهنون على مراكز الثقل في تركيا التي يقودها سياسيا قيادات تنتمي للإسلام السياسي وتدعم الجماعة وتهاجم الدولة المصرية الجديدة، فإن الدولة المصرية مطالبة باللعب على مراكز الثقل الدولى غير التقليدية مثل دول أمريكا اللاتينية ، وتأكيد مبدأ التوجه لبناء علاقات دولية جديدة مع روسيا الاتحادية التى لا يجب أن تقتصر على صفقات التسليح . وفيما تبدو حسابات المكسب والخسارة جلية بشأن وجود الإخوان ودعوات الحوار على صعيد الداخل ومنظومة العلاقات الإقليمية والدولية ، إلا أن حسابات التحالف مع قوة إقليمية مثل إيران تبدو على المحك ، بسبب التاريخ والجغرافيا والمواقف المتناقضة وربما الغامضة وطموحات الدولة الإمبراطورية ، فايران شكلت داعما قويا لجماعة الإخوان على مدى تاريخ طويل منذ حسن البنا ونواب صفوي وآية الله الكاشاني وكذلك سيد قطب والمرشد الإيراني الحالي علي خامنئي، فيما كانت السياسات التي اتبعتها الجماعة للتواصل مع إيران ومعاداة الدول العربية مؤشرا على نمط العلاقة المتجذر رغم الإختلاف المذهبى . ومن هذا المنطلق فإن العلاقة مع إيران المتواجدة فى كل الملفات الحساسة بالمنطقة " سوريا وفلسطين على سبيل المثال " يجب أن تنطلق من فهم واضح لطبيعة تلك العلاقات ، وتأطير المواقف بشكل محدد لا يقترب بأى شكل من علاقة مصر مع أشقائها فى الخليج العربى . ويبقى العامل الأوسع تأثيرا وإنتشارا بشأن رسم معالم مراحل الحوار سواء جرت الإستجابة له أو تعثر وإنهار ، وهو اللجوء إلى بناء منظومة إعلامية تدعم الخيارات المصرية ، حيث أن جماعة الإخوان تلجأ إلى وسائل الإعلام الغربية وبعض المؤسسات الحقوقية والإنسانية بشكل عام لتسويق المظلومية التاريخية المعهودة ، حيث نجحت في استغلالها واستدرت بها التعاطف، وهو ما يمكن أن يرسم صورة لجماعة تريد الحوار والتواصل السلمى مع دولة لا تريد هذا ولا ذاك وتستعمل القبضة الحديدة ضد معارضين مسالمين . وإذا كانت الجماعة تقوم بتحريك فروعها في الدول الغربية وفي العالم الإسلامي ، معتمدة على التغلغل الإخواني القديم في الجمعيات الخيرية والمؤسسات المدنية في الغرب ، فإن الدولة المصرية والقوى السياسية الوطنية مطالبة ببناء أذرع مدنية لها قادرة على تأصيل صورة التحول الديمقراطى التى ترسمها مصر لدى المجتمعات الغربية تحديدا ، حتى تكون العقلية الغربية مهيأة لتقبل التعامل المصرى مع تبعات الحوار الوطنى سواء تم إستكماله أو تم قتله فى مهده كما يجرى حاليا .