تميزت حركة النهضة The Renaissance، في القرن الرابع عشر، بإحياء التراث القديم، وثورة اللغة العامية أي "لغة الشعب"، والثورة على السلطات القائمة، وأهمها "الكنيسة". ومع أن الحركة كانت إنسانية Humanism، إلا إنها حركت كل إمكانيات الإنسان الروحية والعقلية، بل وكانت تمهيدًا ضرورية لحركة الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي. فبدونه لم يكن إصلاح. من الناحية الأخرى، شهد نفس القرن تطورًا هائلًا في اللآهوت الصوفي في كل أوروبا، واشتهرت بعض الكتابات التي تصف الاختبار الروحي والعاطفي لحالة الإقتراب إلى الله، وكان يدعى تصوف "الاستنارة" ورائدها أوريجانوس، ويضاف إلى التطور الإنساني والتطور الروحي، رغبة جامحة في الإصلاح الكنسي. ورغم النهضة العلمية والأدبية، والعمق الروحي(التصوف)، الذي كان في مناطق عديدة في أوروبا، إلا أن الكنيسة بصفة عامة كانت تحيا في فساد أخلاقي، وتدهور إيماني حتى الثمالة، لذا كانت الحاجة ملحة للإصلاح، وارتفاع صوت الاحتجاج على الأوضاع المزرية في مجتمع الكنيسة من جهة والمجتمع المدني من الجهة الأخرى، وجاءت تلك الأصوات عالية ومدوية من غرب أوروبا، تمثلت في جون ويكلف من إنجلترا، وجون هس من بوهيميا. اضطرابات داخل الكنيسة 1 زادت قوة وسلطة البابوية ورجال الدين، فخلق نوعًا من الفساد الأخلاقي بين المسئولين وكهنة الكنيسة. مع تزامن زيادة سلطة البابوات وسُلطة الملوك، الأمر الذي أدى إلى ظهور نزاعات مريرة بينهما. واصبح لرجال الكنيسة دورًا متزايدًا في الشئون السياسية، وأيضًا، كثُر تدخل الملوك في شؤون الكنيسة. وكان البابوات يتنازلون أحيانًا عن استقلالهم ويستسلمون للملوك. وقد حدث هذا بخاصة مابين سنة 1309م وسنة 1377م. 2 في عام 1333 رفض إدوارد الثالث أن يستمر في أداء الجزية التي تعهد جون ملك إنجلترا عام 1213 بأدائها للباباوات، وفي عام 1351 حاول البرلمان في "قانون الشروط" أن يضع حدًا لسلطان الباباوات على موظفي الكنيسة الإنجليزية وإيراد ممتلكاتها. وفي عام 1376 شكا مجلس العموم رسميًا من أن جباة البابوية في إنجلترا يبعثون إلى البابا بمبالغ طائلة من المال، وإن الكرادلة الفرنسيين غير المقيمين في إنجلترا يحصلون على إيرادات كبيرة من كراسي الأسقفية الإنجليزية. تاريخ الغفرانات ارتبط في ذهن العامة أن صكوك الغفران كانت سمة القرن الخامس عشر والسادس عشر. والسؤال هو، من أين جاءت فكرة صحكوك الغفران؟ بدأت الفكرة في القرن الثالث عشر، أن من يعترفون علنًا بخطاياهم، يعشون فترة تكفير عنها بإبعادهم عن الكنيسة، ويعادون في احتفال مصالحة. كانت بين الاعتراف والمصالحة، تنقضي ربما أيام أو أسابيع وأحيانًا أشهر. كما استخدمت الكنيسة لوائح عقوبات مناسبة لكل خطية. لكل منها عدد من ضربات العصا، أو عدد من أيام الصوم. ولأن للكنيسة سلطة الربط والحل، بسبب أن العامة ذو الثقافة البسيطة، لم يفهموا فائدة الصوم (العقاب) كتدريب روحي. فاستبدلت الصوم، ببعض الدراهم كتبرع لمشاريع خيرية. فالمسعى كان روحيًا في الأصل، إلا أنه وصل إلى حد الخلط بين مغفرة الخطايا والمال، وبين الزمن البشري، والمدة الأبدية. فكانت صكوك الغفران لشراء مغفرة للآخرة. كان الملوك والأمراء والبرجوازيون يتنافسون على ربح الآخرة التي قد تضيع من أيديهم. في القرن الرابع عشر والخامس عشر، أرادت عدة مؤسسات دينية أن تعزز حياة الشعب الدينية وأن تعيد التوازن إلى ميزانيتها، فأخذت ترفع إلى كرسي البابوية عريضة للحصول على عدد أيام الغفرانات للمؤمنين الذين يقدمون صدقاتهم. وكان التصديق يأتي من روما. وبالتالي أصبح صكوك الغفران جزء لا يتجزأ من اهتمامات البابوية وجزء من قوانينها. الحروب والكوارث الطبيعية زادت الحالة في أوروبا بؤسًا، بسبب الحروب والكوارث الطبيعية، مما كان له دورًا كبيرًا في توقف التقدم الأوروبي. فقد اندلعت حرب المائة عام بين إنجلتراوفرنسا، من 1337م حتى عام 1453م. وقد أعاقت هذه الحرب التجارة واستنفدت اقتصاديات البلدين. تحلل النظام الإقطاعي، ونظام الإقطاع الأوروبي قد أدى إلى حروب أهلية في شتى أرجاء أوروبا تقريبًا. كانت تعيش الكنيسة في حالة مأساوية وتمزق، بسبب المنازعات الدائرة حول انتخاب البابوات. فقد ادعى اثنان، وفي بعض الأحيان ثلاثة، اللقب البابوي والكرسي البطرسي. ضعفت الوحدة الدينية لأوروبا الغربية. زاد القلق وألم ووجع الناس والخوف من الموت، انتشار الطاعون من 1347 - 1350م، الذي عرف بالموت الأسود.وقد كان واحدًا من أسوأ الأوبئة، الذي أدى إلى موت ما بين ثلث إلى نصف سكان أوروبا. زادت وتكررت سنوات القحط القاسية والفيضانات والمجاعة. يُقال إنه على مدار أربعين سنة، تكررت المجاعة ست مرات، والوباء ست مرات، والحرائق ثماني مرات، بالإضافة إلى فيضان نهر الغارون، والدمار الذي سببه الناهبون. تربة صالحة للتغيير إن الفساد الأخلاقي في الكنيسة، والحوادث المؤسفة في البابوية، والتغيرات التي طرات على المجتمع جعلت من قضية الإصلاح أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فقد أصبح الجو العام مُعدًا للتغيير، فالجامعات أهلت طبقة من المفكرين اللآهوتيين، التواقين إلى الجدل والحلول الجذرية. الأزمات من حروب وأوبئة زادت التوترات الاجتماعية خطورة. الشعور القومي المستند إلى تمو اللغات القومية. كان جرس ناقوص صناعة وجه أوروبا الجديد، يدق على الأبواب. والقادمون للإصلاح لا من إيطاليا أو فرنسا، بل من إنجلترا وبوهيميا. نَجْمُ الإصلاح جون وايكلف John Wycliffe (1320 1383م). ولد ويكلف في قرية بإنجلترا "Yorkshire"، وتعلم في اكسفورد وحصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت عام 1372م. كان مستشارًا لملك إنجلترا. تلقى ويكلف تربية عقلية شاملة عميقة، وظهرت قيمة هذه التربية وآثارها البعيدة المدى في مستقبل حياته وأعماله التي قام بها. اشتهر في الجامعة بتقواه الحارة وغيرته، وبمواهبه العظيمة وأفكاره السليمة. درس الفلسفات وقانون الكنيسة والقانون المدني وعلى الخصوص قوانين بلاده. نقطة فاصلة في حياة الكنيسة ساهمت ثورة اللغة الشعبية لدانتي في إزكاء روح النهضة للكنيسة من خلال ترجمة الكتاب المقدس بلغة الدارج، والذي قام به ويكلف. فقد كانت أول وأعظم إسهاماته هي ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الإنجليزية الدارجة (اللغة الوطنية). آمن بأن سلطة الكتاب المقدس هي فوق كل سلطة أخرى، وبما أنه مصدر كل التعاليم، يجب على الناس أن يتمكنوا من قرائته بأنفسهم دون الحاجة إلى ترجمة أو تفسير. وبالتالي بترجمة الكتاب المقدس للعامة، قد قوض سلطة الكنيسة. أول من احتج على مبدأ الاستحالة في الافخارستيا، فقد كان يؤمن أن جسد المسيح حاضرًا في العناصر(الخبز والخمر) بعد تقديسها، وليس هذا العنصر أصبح جسد المسيح. وقف ويكلف موقفًا جريئًا ضد إبقاء الجزية التي فرضها البابا على ملك إنجلترا، وبرهن على أن ادعاء البابا بأن له حق السيادة على الحكام المدنيين مناقض للعقل والوحي الإلهي. بل وضع نظامًا كريمًا للكهنة الفقراء، الذين عاشوا كأنهم متسولون بين الناس. بذل ويكلف حياته لسيده، طالت سنوات التعب والكدح، إلى أن وضع أساس الإصلاح العظيم. طالت أيامه، ومات بعد اصابته بشلل نصفي، بعد موته أدين بالهرطقة، وأحرقت كتبه بل وحتى عظامه أخرجت من القبر وأحرقت بأمر من البابا. كان ويكلف قبل لوثر بقرن ونصف، ومع ذلك فإن معتقدات ويكلف لم تسبق تعاليم المصلح العظيم فقط، بل وأيضًا تفوقت عليها. فقد خرج من غمرة عصور الظلام. ولم يكن أحد قد سبقه حتى ينسج نظام الإصلاح الذي قام به على منواله. لقد قيل عنه: "كان ويكلف أحد أعظم رجال الإصلاح. ففي اتساع ذهنه وسمو تفكيره، وفي عزمه الثابت على حفظ الحق وجرأته في الدفاع عنه، لم يكن يباريه غير القليلين ممن أتوا بعده. إن طهارة الحياة، والنشاط الذي لا يكّل في الدرس والكد، والنزاهة التي لا غبار عليها، والمحبة المسيحية والأمانة في الخدمة كانت هي الصفات التي امتاز بها أول المصلحين، وهذا كله على رغم الظلام العقلي والفساد الأخلاقي الذي استشرى في عصره". جون هس John Hus (1369 1415م) ولد هس في قرية هوسينتز، جنوب غربي بويهيما (جمهورية تشيسلوفكيا الآن)، وعرف باسم جون الهوسينتزي الذي اختصره فيما بعد إلى هس. قبل خمسة عشرة عامًا من موت أستاذه جون ويكليف، الذي كان يحترمه ويقدّره. وقد كان الله في هذا الوقت، يعِّد ويؤهل تلميذًا شاهدًا شريفًا ليحمل مصباح الشهادة ويسلمه إلى سلسلة الشهود. كان هس مفكرًا، وفيلسوفًا ومصلحًا تشيكيًا، درس في جامعة تشارلز في براغ. في عام 1391م، أقيمت في براغ كنيسة خاصة سميت كنيسة بيت لحم لتقود حركة الإصلاح. وفي عام 1401م، عين جون هس واعظًا لهذه الكنيسة. وحصل عام 1396م على إجازة أستاذ في الآداب، وبدأ يدّرس في الجامعة. واختير عام 1401م، عميدًا للدراسات الإنسانية، ورسم في نفس العام قسيسًا، كنيسة بيت لحم. وأصلح حياته حتى اقترب بها إلى زهد الرهبانية، وأصبح أشهر واعظ في براغ، وكان بين المستمعين إليه كثيرون من رجال البلاط، وقد نصبته الملكة صوفيا مستشارًا لها. وبسبب بلاغته، عين المتحدث الرسمي للامة في الشئون السياسية والدينية. إصلاحات هس استكمل بقوة هس رسالة أستاذه ويكلف، فقد نهل من كتبه التي امتلأت بها بوهيميا في تلك الأيام، وعلم بها الشعب. من أقوى الأفكار التي علمها ونشرها، وكانت قناعات لكثيرين، أن المسيح هو رأس الكنيسة، والشعب هو جسدها، مقابل أن البابا هو راس الكنيسة والكرادلة هم جسدها. فكان يرفض جذريًا، نظام السلطة الذي نما داخل الكنيسة. طُرح هس عدة أشهرفي سجن قذر في جزيرة في وسط البحيرة. وفي يوم 5 يونيو سنة 1415 جئ به مُكبلًا بالسلاسل أمام مجمع الشيوخ. حُكم عليه بالإعدام بالحرق على العود، أكلته وهو يرنم. مات جون هس، ولكن حركته استمرت. وكان لأهل بوهيميا بطلًا قوميًا وشهيدًا. إن قصة حياة هس، يمكن أن تقرأ كبروفة لحياة مارتن لوثر الذي آتى بعده بقرن من الزمان، ولم يستكمل هس دوره كما فعل لوثر لعدة أسباب: كانت تنقص هس عبقرية لوثر، كما أن الوقت لم يكن منناسبًا. ففي أيام لوثر كان السخط على ممارسات الكنيسة، قد زاد وبصورة حادة، الأمر الذي استثمره لوثر بقوة لا مثيل لها.