أترى قد عدنا إلى غياهب جهل مدقع حتى أصبحنا نعيد إنتاج المعضلات نفسها التي عانى منها العالم في العصور الوسطى وأزاحها عصرا النهضة والتنوير؟ تلك المعضلات التي جعلت المجتمع الأوروبي يقلي كل ما هو روحاني ويُخرج فكره من بوتقة « عبودية » الدين إلى سبيل « حرية » المادية. وإذا ما سألت شخصاً ينتمي إلى هذا الوطن العربي « المهترء » عن رأيه في فكر الأوروبيين الآن، أجابك بمنتهى الفخر والاعتزاز بأننا شعوب أكثر تديناً منهم لكنه عجز عن إيجاد مبرر يفسر تابعيتنا لهم حضارياً ونهضوياً. وبدلا من أن نتقدم للأمام ونفكر في اللحاق بركب التكنولوجيا والتطور الصناعي الهائل، بات منا من ينبش في ثرى الماضي لاهثاً وراء حلم إقامة « دولة الخلافة الإسلامية » متناسياً أن من أهم الدعائم التي تقوم عليها هذه الدولة « الفاضلة » هي وفرة العلماء في مختلف المجالات. وكيف يتحقق حلم الخلافة والقائمين عليها لايألون جهداً في جر شعوب المنطقة إلي اضمحلال حضاري وثقافي؟ يعلّمون أبنائهم أن المعرفة اختصرت في علوم الدين والحرب، بل إنه لا يصح اتباع سوى مذهب فقهي « وضعي » واحد يريدون فرضه على الجميع. لمن منكم لا يعرف ما عانت منه أوروبا المسيحية خلال القرون الوسطى حتى القرن السادس عشر، فإن الكنيسة الكاثوليكية كانت قد هيمنت على الحياة السياسية في أوروبا، حتى أصبح بابا روما يتدخل في سياسات المدن والاقطاعيات الأوروبية ويجبي منها الضرائب، ويستولى على الأموال، ليس من الأغنياء فقط بل من الفقراء والأقنان أيضاً، بحجة استبدال خيرات الدنيا بكنوز الآخرة. لكن إلى أين كانت تؤول كل هذه الأموال؟ بالطبع إلى البابوات ورجال الإكليريوس الذين كانوا يكنزوها، دون أن يعبأوا بدورهم في دعوة الناس إلى الصلاح والتقوى والبر والخشوع للرب وترك ملذات الدنيا الفانية والتطلع إلى النعيم الأبدي. بيد أن أخطر ممارسات الكنيسة كانت تكمن في احتكارها لتفسير الكتاب المقدس، وساعدها في ذلك عدة عقبات كانت تحول دون وصول العلم اللاهوتي إلى عامة الشعب، منها على سبيل المثال عدم إتقان العوام للغة اللاتينية التي كانت تُعتبر لغة العلم آنذاك وإليها تُرجم الكتاب المقدس، فضلا عن قلة النسخ المتداولة من هذا الكتاب، خاصة قبل اختراع جوتنبرج للطباعة بالحروف المتحركة، بالإضافة إلى جعل منهج الكنيسة الكاثوليكية فقط هو المنهج الرسمي للدولة، ومن يخرج عن هذا المنهج أو يحاول أن يحدّث فيه، يُنعت بالهرطقة ويعاقب بعقوبات قد تصل إلى حد الموت. ولا غرو أن هذه الممارسات قد أججت الصدور وأوقدت نار السخط والكراهية وباتت الألسنة تتساءل هل من المعقول أن تتوافق هذه الممارسات البغيضة مع التعاليم المسيحية المتسامحة؟ فما كان إلا أن ظهر مارتن لوثر (1483م - 1546م)، ذلك القس الألماني الذي ضاق ذرعاً من استخدام الدين كوسيلة لتحقيق المطامع السياسية والاقتصادية التي استشرت بين رجال الدين، فالدين لم يعد سوى مطية يركبها الطامع ليصل إلى السلطة والجاه وليملأ صرره بالنقود. وحتي يتسنى « لرجل الدين » ذلك، ينبغي عليه أن يسيطر على العقول الذي حرمها القَدَرُ من أن تتلقى القَدْر الكاف من التعليم والثقافة وأن يسلبها حرية الرأي، فيستعبدها فكرياً، ومن ثَم تبدأ العقول في استساغة فكرة احتكار "المتحدث باسم الدين" للحق الإلهي وامتلاكه وحده لسر الخلاص. كان قدوم مبعوث البابا، الراهب تتزل، عام 1517م إلى مدينة فتنبرج في مقاطعة ساكسونيا الألمانية حيث كان يقيم لوثر آنذاك وشروعه في بيع « صكوك الغفران » التي كانت وثائق تباع في مقابل مبلغ من المال يدفعه الطامح في الغفران الجزئي عن خطاياه، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. لقد استشاط مارتن لوثر غضبًا من هذا الفعل، وأعلن على الملأ احتجاجه على فساد البابوات ودعا الشعب الألماني إلى مقاطعة هذه الصكوك. وبالطبع، اتهمه ليو العاشر بابا روما بالهرطقة وفصله من الكنيسة، ولما رفض لوثر التراجع عن آرائه، أُعلن أنه قد خرج عن القانون وحُكم عليه بإهدار دمه. بيد أن فريدريك أمير سكسونيا المستنير قد وضع الكاهن المُصلح تحت حمايته في قلعة حصينة حتى لا يُقتل. خلال العام الذي قضاه لوثر في الحصن، ترجم الكتاب المقدس إلي اللغة الألمانية لأنه كان يرى أن الكنيسة ليس لها الحق في فرض تفسير معين للكتاب المقدس، فمن حق أي إنسان أن يُعمل عقله في فهم كلمات الرب ومن الطبيعي أن تتباين مفاهيم الناس لتعاليم الدين، خاصة وأن تفسير الكنيسة للكتاب المقدس هو تفسير بشري، قد يخطىء أو يصيب. كما أنه أخذ يتساءل عن مدى صحة « الأسرار المقدسة » التي تمارسها الكنيسة الكاثوليكية، خصوصًا « سر الاعتراف » الذي يقضي بضرورة اعتراف المسيحي بالخطايا التي اقترفها إلي كاهن الكنيسة ثم المطالبة بالغفران. لقد رأى رائد المذهب الإصلاحي أنه لا وساطة بين العبد وربه، فالغفران هو عطية الرب يمن بها على عبده مباشرةً. لاقت التعاليم اللوثرية صدى بين أبناء الشعب الألماني، خاصة بسبب تناقض الممارسات الكنيسية مع التعاليم الصحيحة للدين المسيحي وتسببها في مضاعفة شقاء المعوزين. وبلغ سخط بعضهم على الكنيسة الكاثوليكية أن أضرموا نار الثورة ولجأوا إلى استخدام العنف، وما أن علم لوثر بذلك حتى خرج من مُعْتَصَمه وأعلن تبرؤه من هذه الأعمال المقيتة. وما أشبه الليلة بالبارحة، فما كانت تقترفه الكنيسة الكاثوليكية في هذه الحقبة الداجنة، أصبح الآن على مرأى ومسمع من الجميع، خاصة في الوطن العربي، لنجد معظم جماعات « الإسلام السياسي » تتخذ من الإسلام ستارًا لتحقيق مطامع سياسية واقتصادية وتطبق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، إلا أنه بدلا من أن تكون السلطة هي الوسيلة لغاية نشر تعاليم الإسلام السمحة، أصبح الدين هو ما يُوظف لخدمة غاية الوصول إلي مقاليد الحكم. وما يزيد الطين بلة أن هذه الجماعات تعتنق مذاهب فقهية « وضعية » متشددة، وتدّعي احتكارها التفسير « الصحيح » للآيات القرأنية وتبالغ في الإيمان باجتهادات وتفسيرات بشرية كما لو كان من توصل إليها هم أنبياء وليسوا بشرًا. هذه « الشريعة » البشرية التي تختلف بحسب أيديولوجية كل جماعة أصبحت القانون الذي « يجب » أن يلتزم به كل مسلم، وإن حاد عنها أو استحسن مذاهب فكرية دينية أخرى أصبح « مرتدًا زنديقًا » يجب تطبيق « حد الردة » عليه الذي قد يصل إلى الذبح أمام أعين الناس. ولا غرو أن نجد إذن « صكوك غفران » في ثوبها « الانتخابي » الجديد، فمن اختار « نعم » فاز بالجنة ونعيمها، وبئسًا لكل من تسول له نفسه ويُصوت « بلا »، وتارة أخرى تكون « لا » هي طريقك للجنة و« نعم » تلقي بك في نار تلظى، مستغلين في ذلك عقول البسطاء التي تدغدغ مشاعرهم كلمة « إسلامي » حتي وإن كان الشىء المنعوت لا يتوافق فعليًا مع تعاليم الدين « الإلهية »، وليست البشرية. وأصبح « الجهاد » هو الكلمة السحرية التي تُساق من أجلها الأموال الطائلة، ولا أدري ما إذا كانت تُنفق الأموال جميعها على العدة والعتاد أم تؤول بعضها إلي جيوب مصدري « الجهاد »؟ أصبحت أتساءل هل بات العالم الإسلامي الآن في حاجة إلى ظهور مارتن لوثر جديد، خاصة بعد ما ارتدى الفساد قناع « إسلامي »؟ هل نحن بصدد صراعٍ يترنح بين سَدَفَة القرون الوسطي ونورعصور النهضة ؟ لمن ستكون الغلبة إذن؟ وماهو مصير المجتمعات العربية؟ هل « سيسرف » العرب في نهاية هذا الصراع في تشديد أمور دينهم أم « سيقتروا » من اتباعهم لتعاليم الدين الصحيحة باعتبارها أداة قد سيء استخدامها أم سيكونون بين ذلك قوامًا؟ وهل سيصبح العرب يومًا قادرين على استعادة « الحضارة الإسلامية » التي أضاءت بعلومها أوروبا في حقب جهلها أم أن مفهومي « الدولة والحضارة الإسلامية » قد باتا منحسرين في وصول أحد الجماعات الإسلامية إلي الحكم وتطبيق ما يسموه « بالشريعة » واتباع أنظمة سياسية قد عفا عليها الزمن؟ جميعها أسئلة تلقي بي في نَّوْفَل الحيرة والالتباس، فأعجز عن الإجابة عنها، ولكن إن غدًا لناظره قريب.