في المقال الأول ذكرنا أن الفترة من القرن الخامس حتى السابع كانت أكثر إظلامًا على أوروبا، حيث كان مستوى التعليم والثقافة خلالها في غاية الانحطاط، وكانت المعلومات الوثائقية حول تاريخ هذه الفترة قليلة ومتأثرة بالخرافات والأساطير فوق كل ذلك، عانت أوروبا الفقر وقلة السكان، لقلة المساحات المزروعة بسبب كثافة الغابات ولوجود المستنقعات، كما أدت الأمراض والمجاعات والحروب وانخفاض معدل المواليد إلى عدم زيادة السكان، هذا كله ألهى المجتمع الأوروبي وحتى النخبة المثقفة عن الإنتاج الفكري والثقافي. وعلى الرغم من الصورة السوداوية عن العصور الوسطى، إلا أنه كان في الصورة بعض المنارات، أو بقع الضوء الخافت. على أي حال، فإنها بشكل عام لم تكن مستنيرة، فاستنارة بعض العباقرة لا يعني استنارة عموم الشعب. أول من ساهم في الإصلاح كان غريغوريس الأول، ومن بعده شارلمان أو تشارلز العظيم، الحاكم الأقوى في أوروبا لقد اجتذب شارلمان أعظم المفكرين في عصره، وأقيمت منارة جديدة للتنوير، تنافس بيزنطة في الشرق وإيرلندا في الغرب ومات شارلمان في عام 718م، تاركًا الإمبراطورية بدون حاكم قوي. وقد ظهر عدد من المفكرين البارزين، كمنارات للفكر الحر، من بين هؤلاء مفكر بارز يدعى إريجينا Erigena وهو أيرلندي، وربما نشأ كشاب في أيرلندا حيث كانت جزيرة متقدمة فكريًا وروحيًا أكثر من بقية أوروبا ولم تتعرض لأي غزاوات تعرضت لها المناطق الآخرى. وبقيت أيرلندا كجزيرة التنوير الكلاسيكية، وقد بدأت بالفعل إرسال مرسلين إلى أسكتلندا وإنجلترا. وغير معروف متى ترك إريجينا جزيرته ليعبر بحر المانش، ليشكّل جزءًا فاعلًا من العالم الثقافي الذي ولد من جديد حول الكارولنجيين وخاصة حول شارلمان في فرنسا. كان لإريجينا القدرة على الوصول إلى الموارد العلمية التي لم يسبق لها مثيل وتعتبر أهم مساهمات إريجينا أنه مارس النقد النصي للكتاب المقدس، فقد اعترض وبشدة على التفسير الرمزي، ونادي بأن التفسير الصحيح هو محاولة فهم النص فهمًا لغويًا وعقليًا. كان إريجينا ذو ثقافة في كتابات آباء الكنيسة، سواء منها اليونانيّة أو اللآتينيّة، إذ كان يغرف بشكل مباشر من كتابات الآباء اللآتين واليونان وكان يعرف جيّدًا، أعمال أغسطينوس وأمبروس وغريغوريوس الكبير وكبار آباء الغرب المسيحي. ويعرف جيدًا أيضًا فكر أوريجانوس وغريغوريوس النيصي ويوحنا فم الذهب وديونيسيوس، ومكسيموس المعترف وآباء كثيرين من أباء الشرق العظام. كان رجلًا مميّزًا، يتكلّم في ذاك الزمن بِطلاقة اللغة اليونانيّة. اقتنع إريجينا برسولية كتابات ديونيسيوس، ووصفه بال"مؤلف الإلهي" بامتياز، لهذا كانت كتابات ديونيسيوس مصدرًا بارزًا في تفكير إريجينا، فقام بترجمتها إلى اللآتينية. ومن خلال هذه الترجمة، عرفَ كبار لآهوتيي العصور الوسطى أعمال ديونيسيوس. كما كرّس إريجينا كل حياته للتعمق في هذه الكتابات وتطوير تفكيره، لدرجة أنه يصعب اليوم تمييز نتاج تفكير إريجينا عن استعراضه لفكر ديونيسيوس. والحقيقة الجديرة بالملاحظة، إن أعمال إريجينا كانت نتاج عقل منطقي ومستقل بعيدًا عن العقائد والأفكار التقليدية. والكتابات التي ترجمها وأعماله التي ألفها، كانت مؤثرة في الغرب، بل وكانت محورية لفكر توما الإكويني. رغم كل هذا الثراء الفكري والأدبي والروحي للنهضة الكارولنجية، إلا إنه قد غطاها رماد النزاعات واندثرت مع نهاية النصف الثاني من القرن التاسع فإن أحفاد شارلمان الثلاثة تنازعوا من أجل اللقب الإمبراطوري، ودمرت غزوات جديدة (النورمنديون والمجريون) الحقول وأفسدت المؤسسات. وبحلول القرن العاشر، انقسمت الدولة الرومانية المقدسة إلى قسمين، الجزء الغربي وهو فرنسا، والجزء الشرقي وهو ألمانيا والنمسا. فلا غرابة أن يُعد القرنان العاشر والحادي عشر زمنًا حالكًا في تاريخ الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وقد انتقلت الكنيسة إلى أيدي العلمانيين، واندمجت يومًا فيومًا في المؤسسات الإقطاعية. علاوة على ذلك، تفشت السيمونية، نسبة لسيمون الساحر (القصة المذكورة في سفر أعمل الرسل، الذي حاول أن يشتري الإيمان بنقوده)، وهي بيع الوظائف الكنسية. رغم اندثار النهضة الكارولنجية، يرجع الفضل لها في إنقاذ الأدب اللآتينى من الهوة السحيقة التي تردى فيها في القرن السابع، ومنح قوة دافعة للأدب اللآتيني وقد ظهر أثرها بعد ذلك في النهضة السكسونية في ألمانيا، وفى المدارس الديرية الكبرى التي ازدهرت في القرنين التاسع والعاشر وهنا نسجل أن الانحلال السياسي الذي تعرض له غرب أوروبا في القرن التاسع لم يصحبه – لحسن الحظ – تدهور في الدراسات الأدبية، الأمر الذي جعل القرنين التاسع والعاشر يحتفظان بعض الشيء، بمستوى ثقافى لائق في الدراسات الأدبية كالتاريخ والشعر. إلا أن نتيجة لتسلط العلمانيين وتفشي السيمونية، تخلى الرهبان والكهنة عن مبدأ العزوبية منذ أواخر القرن التاسع الميلادي فقد أقبل على الزواج عدد كبير من الكهنة والرهبان وأهملوا واجباتهم الكنسية، وأخذوا يصرفون الممتلكات الكنسية في أعمال لا أخلاقية، مما ساعد على تفكك الكنيسة. ومن جهة أخرى، فقد أنهضت حالة الانحلال والانهيار لمؤسسات الكنيسة ورجال الإكليروس في غرب أوروبا، قلوب بعض البابوات للإصلاح وباتت حركات جزئية ترتسم هنا وهناك لإصلاح الكنيسة، فظهرت حركة الإصلاح من داخل الإديرة والتي سميت بالإصلاح الكلوني في حوض الراين سنة 910م، وهذه الحركة كانت عبارة عن معاهد دينية (برز فيها ممارسة الصمت والصلاة والعمل)، تخرج منها عدد من المصلحين الذين عملوا على إصلاح الكنيسة والتخلص من حالة التدهور والانحلال. أما عن البابا بندكتس السابع (974 – 983م)، فقد حكم بحزم مدينة روما وأصدر بالاتفاق مع الإمبراطور، قرارا يقاوم السيمونية. علاوة على جهود فردية من بعض الرهبان الإكليريكيين، وبعض الأساقفة، ولا سيما الفرنسيون منهم، الذين كانوا يحتجون وينددون بالأوضاع السيئة، ويطالبون بعقد مجامع للوصول إلى الإصلاح. علاوة على ما فعله الإمبراطور هنري الثالث (1039 – 1056م)، فقد كان شديد الاقتناع بما عليه من مسئوليات، فتدخل في تعيين البابوات، لتثبت من رزانتهم الأخلاقية على الأقل. تجسدت حركة الإصلاح الكلوني بقوة أوآخر القرن الحادي عشر عندما اعتلى الراهب "هيلدبراند" وهو البابا غريغوريوس السابع، من شمال إيطاليا. الذي استعاد للكنيسة قوتها، ودورها ومسؤليتها عن الإصلاح، فبدأت تشرف على التجديد الأخلاقي والديني، وحددت أهداف هذا التجديد، بإدخال أحكام أخلاقية مسيحية في حياة الناس، وذلك ببدء هذا الإصلاح في حياة الاكليروس والأساقفة وقد أصدر الباب غريغوريوس السابع أهم ثلاثة قرارت في مستهل خدمته وهي: 1- عدم التعامل مع رجال الدين، الذين حصلوا على مناصبهم بالشراء. 2- عدم التعامل مع الكهنة المتزوجين أو الاشتراك في الصلاة معهم. 3- تحذير أن يقوم أي علماني، سواء كان أمبراطورًا أو أميرًا أو ملكًا، على تعيين كاهن في أي كنيسة. ويبقى في التاريخ علامات بارزة، حفرها إصلاح غريغوريوس السابع، شكلت تاريخًا فاصلًا في حياة أوروبا هو التمييز بين الروحي والزمني فالروحي هو حرية الكنيسة، بإكليروس منفصل وبابوية مركزّة، والجديد أن الإكليروس أصبح غير متزوج ومحررًا من عوائق المال وكافة الاهتمامات العلمية أما الزمني فهو تكوين الدولة العصرية. كان العلمانيون في العديد من مناطق أوروبا، بداية من النصف الثاني من القرن الحادي عشر، يشاركون بمشاركة ناشطة في حركة إصلاح الكنيسة، وفي الاضطرابات الدينية التي هزت العالم المسيحي في ذلك الوقت ونتجت تلك الحركات الدينية الشعبية، عن التقلبات التي أحدثها الإصلاح الغرغوري. وفي أوائل القرن القرن الثاني عشر، بدأ مجتمع أوروبا يتحول بسرعة، واستطاعت العقليات الجديدة الغريبة بعيدة عن العالم الإقطاعي أن تنمو، فالمدن والقرى بدأت تتنّظم، وبفضل التجارة، زادت العلاقات، وكان الناس والأفكار تنتقل بسرعة، وأخذت المهن تتنوع، فكان التجار والحرفيون وأصحاب الدكاكين يتزايدون. ومن جهة أخرى أخذت المدينة طريقها يومًا فيومًا مهدًا لملتقلى رجال الفكر وراح المفكرون في المدينة ومحيط المدارس، يتدربون على النقاش والنقد والجدل، وتتبلور روح المفكر الحر في تلك الأيام. إن التحول الاجتماعي والفكري كان صاعدًا وبقوة في القرن الثاني عشر، هذه القوة الجارفة، مع الصراعات السياسية والاجتماعية، التي تمركزت في المدن، قد أعدت العقول للعصيان الديني. يصف جاك لوكوف، رئيس معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس، أن القرن الحادي عشر هو زمن اليقظة، وأما القرن الثاني عشر هو زمن انتشار الأفكار الجديدة، والقرن الثالث عشر هو ترتيب المستجدات. ويسترسل قائلًا: "إن القرن الثالث عشر هو زمن الازدهار وذروة ثقافة العصر الوسيط، وفي نفس الوقت زمن اتزان العقل والإيمان. كانت العصور الوسطى هي عصر "العالم المسيحي" وهو العصر الذي بلغ ذروته في القرن الثالث عشر، حيث ظهر جيل جديد من اللآهوتيين. وفي فترة سابقة، كانت أعظم العقول الأوروبية مكرسة للفلسفة، وتحولت إلى أتباع المنهج المسيحي، واتحد الإيمان والدين والعقل والعلم والفلسفة معًا في جسد واحد لا ينفصل من التعليم. اختم مقالة اليوم، بما ذكره جوناثان هيل، في كتابه تاريخ الفكر المسيحي عن أعمال لآهوتي العصور الوسطى فيقول: "رغم أنه تبدو أعمال لآهوتي العصور الوسطى غريبة، وغير مفهومة أو مجرد شيء ممل، وبكل تأكيد تبدو كأنه ليس لديهم علاقة بالمسيحية كما يعرفها معظم الناس اليوم. ولكن تحت هذا المظهر الجاف لهولاء الكتاب تكمن رؤية روحية عميقة، وعمق عاطفي وشعري رائع من النادر أن يعادله شئ ما. هذا، جنبًا إلى جنب مع التطوّر الفكري غير المسبوق لتفكيرهم، والذي جعل للآهوتهم قيمة عظيمة تربو نحو الخلود." إنهم نسور الفكر في عصور الظلام، وهذا ما نشرحه باستفاضة في المقال القادم.