سارة رمضان النافذة نصف مفتوحة، ضوء رمادى مائل إلى الأزرق يتسلل مثل زفير ثقيل عبر الستارة.. فى الخارج، لا أصوات للعصافير، فقط زعيق خافت من سيارة تمر، وارتجاج الزجاج القديم كلما هبت ريح خفيفة يفتح عمروعينيه ببطء، لم يكن نائمًا تمامًا، ولا مستيقظًا، شفتاه جافتان من كثرة الويسكى الذى أسرف فى شربه ليلة أمس، حتى أُغُشى عليه لينام وحيدا كالعادة، صدره دافئ، لكنه مشدود، كأن شيئًا ثقيلًا وُضع عليه أثناء النوم. المدينة تُسمع دون أن تُرى، لا شىء مهم يحدث، لكن كل شىء ثقيل، والصداع حاضر بكامل هيئته، مثل صديق قديم يقاسمه الفراش والوقت والكثير من التفاصيل. مد يده نحو الهاتف النائم على طاولة صغيرة إلى جواره، ثم أعادها فورًا لم تكن هناك رسالة، لم يكن هناك شىء أصلاً، كان الصداع فقط.. ليس موجة، ولا خفقة بل كتلة مستقرة خلف الحاجب الأيسر، كتلة صامتة وثقيلة، انطبعت حتى صارت عضوًا فى الجسد النحيل. هذا الاعتياد جعل عمرو لا يفكر فى الصداع إلا فى حالة حالة واحدة، حين يغيب. فغياب الأصدقاء مقلق. رفع الغطاء ببطء، جلس على حافة السرير، شعر أن البلاط بارد أسفل قدميه. وفى الزاوية، قميص أبيض ملقى فوق كرسى خشبى هزاز، وجورب مقلوب، لا شىء جديد، فتح الدرج وأخرج علبة دواء أخذ قرصًا صغيرًا، وضعه تحت لسانه دون ماء. لم يكن واثقًا أنه يفعل ذلك للشفاء، فقط شىء يفعله، كما يغسل وجهه، كما ينظر إلى سقف المطبخ حتى يغلى براد الشاى أو القهوة. قام نحو المطبخ، ليصنع قهوته، جلس على الكرسى البلاستيكى الأزرق، وترك عينيه تنظران إلى الحائط الذى رسم عليه قبل ثلاث سنوات شيئًا يشبه وجهًا، ثم مسحه ولم يعد منه سوى بعض من ملامح متقطعة أو مشوهة مع ظل لألوان باهتة. شرب القهوة. مرة.. مرتين.. ثلاثاً.. دون سكر.. وضع الفنجان. فتح الثلاجة.. نسى ماذا كان يريد.. أغلقها. جلس مرة أخرى، وقع نظره على الدعوة التى تركها فوق المنضدة قبل أيام، مد يده نحوها أمسكها ليضعها بين الزجاج والسطح الخشبى، تكاسل عن ذلك، لكنه انتبه إلى اسمه المكتوب عليها، أحدهم يدعوه إلى فعالية قريبة، غالبًا لن يذهب، يفكر متأملًا الاسم مكتوبًا، صوته الداخلى لإيقاع الحروف ممتزج مع صوت الصديق يناديه من داخل الرأس نداء مُلِّحًا. يُغمض عينيه وينطق حروف اسمه منفصلة من داخل روحه، «عين» يعقبها صوت الطرقة الأولى، «ميم» فالطرقة الثانية، «راء»، فالثالثة..... يبتسم ويتحدث إليه مباشرة: لطيف أنت يا صداعى الأثير. كانت الساعة تشير إلى التاسعة وأربعين دقيقة صباحاً، معرضه يُفتح فى السابعة مساءً. فتح الصنبور قليلًا، ملأ نصف كوب من الماء، شربه دفعة واحدة، ثم جلس على الأرض، مستندًا إلى باب الثلاجة، وفوق رأسه، كان صوت الماء يمر فى أنبوب قديم داخل الجدار يشبه نفس عميق لشخص نائم فى الغرفة المجاورة. أغلق عينيه.. فجأة، تذكّر شيئًا صغيرًا جدًا، كان عمره ربما تسع سنوات، والدته كانت تضع المكياج فى المرآة، وتحدثه من دون أن تلتفت، قالت له يومها: «مفيش حاجة اسمها وجع من غير سبب، لو وجعك راسك، تبقى زعلت من حاجة، بس مش عايز تقول». وقتها، لم يكن يعرف ماذا يعنى «الزعل»، لكنه شعر بحاجة إلى البكاء دون سبب، فتح عينيه، قام من الأرض، دخل غرفة المعيشة، جلس على الكنبة، أمسك الريموت، شاشة التلفاز كانت سوداء، لم يضغط زر التشغيل، ظل ينظر إلى انعكاس خفيف لوجهه على الزجاج، ملامحه كانت باهتة جدًا، شعره مشوش وقد ملأه الشيب، وعيناه منتفختان كأنه كان قبل قليل فى بكاء طويل، رنين الهاتف يقطع شروده، ينظر إلى الاسم على الشاشة، مكالمة من «مى»، لم يجب، ترك الهاتف يرن دون رد. بعد لحظة، جاءت رسالة على الواتس آب، كانت مى مرة أخرى: «كنت بتكلم عنك امبارح مع أختى، قلتلها: هو مش من النوع اللى بيحب يتكلم كتير.. بس عينيه كلها كلام، واتفقت معايا أنها هتحضر افتتاح معرضك النهاردة عشان تتعرف عليك عن قرب، بتقول إنها حبت طريقة كلامى عنك، قل لى بقى هاتلبس إيه النهاردة خلينى أساعدك فى الاختيار على فكرة أنا كمان ذوقى حلو». أغلق الهاتف ووضعه على الأرض، ثم بصوتٍ منخفض لا مبالٍ قال: «كلام.. أى كلام». كان الصداع قد تحول الآن إلى ما يشبه الحرارة فى نصف وجهه الأيسر، لكنه لم يشرب شيئًا، لم يأخذ دواء، ظل جالساً فقط، وكلما مر الوقت، بدا له تمامًا أن هذا الألم، ليس غريبًا، بل على العكس، كان مألوفًا جدًا، مثل رائحة ملابس قديمة من طفولته. تحرك سريعاً، وصل إلى المرسم، دخله بشغفٍ غير مكتمل يحاول الرسم من غير هدف واضح، صمت الصداع فجأة، والمرسم أيضا كان صامتًا، ملامح لوحة غريبة وباهتة تبدأ فى التشكل: وجهٌ يميل إلى شكل المثلث، يفكر: قد تكون الأضلاع المتعرجة تمثلنى وخاطرى النائم والصداع الحاضر، جميعنا فى هذه المساحة، غير أن نظراتنا شاردة متقاطعة. يتوقف عن التفكير، لا يستطيع رسم أى ملامح واضحة فى الوجه، يحاول مجددًا، لا يستطيع الدفع بالفرشاة إلى اللوحة، شىءٌ ما يوقفه. الغرفة مشبعة برائحة زيت التربنتين، وهواء الغرفة كسول، يحرك ورقة هنا، خيطًا من القماش هناك، لا شىء أكثر، وخارج النافذة، القاهرة تتنفس ببطء وعمق. لم يكن الشغف قد انقطع تمامًا، يحاول مرة أخرى، وقف أمام القماشة البيضاء، يحدق فيها، يغمس طرف الفرشاة الرفيعة، فى الرمادى الداكن فى جانبٍ من باليتة الألوان. لم يكن ينوى رسم شىء محدد، أراد فقط أن «يبدأ»، لكن بعد الخط الثالث، أدرك ما كان يظهر دون قرار: وجه. لا وجه مكتمل.. فقط منحنيات خد وغمازتان، ظل فم، انحناءة فك غائر.. الجبين كان عريضًا.. الشعر مختلط.. ثم توقف، غمس الفرشاة مجددًا فى الأسود، رفع يده، مستعدًا لطبع العين حتى تظهر الملامح وتتجاوز قليلا هذا الغموض، لكنها لم تتحرك، يده تجمدت، كأن شيئًا داخله يقول: «لا.. هذا أفضل»، خفض يده، ابتعد خطوتين إلى الوراء، نظر إلى اللوحة، حاول أن يفهمها كما لو كانت لشخص آخر غيره رسمها: «مين ده؟» لا، الوجه لم يكن يشبه أحدًا، كان فيه شىء آخر، شىء مألوف جدًا، ثم، بدأ الصداع يعود، ببطء، كما لو أنه يتنفس من خلف أذنه اليسرى، لكن هذه المرة، لم يكن الألم مفاجئًا، ولا مؤلمًا، كان أشبه بمن يقف خلفك بهدوء، ولا يقول شيئًا، جلس على الأرض، مقابل اللوحة، فرك جبهته بشكل سريع، تمتم: «كل مرة.. مش قادر أكملها»، «العين مش عايزة تترسم أو أنا اللى مش عايز ارسمها.. مش عايزة أشوفها.. ولا تشوفنى». أرجفته رنة الهاتف، كانت «دينا»، أغلقه قبل أن يرد، لا يرى جدوى فى التعاطى مع الأحداث، جسامًا كانت أو هيِّنة، وربما الأشخاص أيا كانت المنزلة التى يتصورونها هم لا هو، لقد تسللوا خلسةً إلى هذا الهامش المهمل، فما الداعى للانشغال بمكالمة مع أحدهم. فكر فجأة: «لو أن الصداع يختفى تمامًا؟» ثم بنظرة ذهول وامتعاض لإجابة سمعها فى نفسه، يضحك بعدها بصوتٍ منخفض، ولم يعرف لماذا ضحك أصلًا. نظر حوله كانت الغرفة صغيرة، ليست باردة، لكن الهواء فيها يحمل رائحة ورق قديم. خلف طاولة صغيرة يجلس د. سامى حسن، بوجه هادئ لا يُقنع بشىء، ولا ينفى شيئًا، وجه صارم لا ينبئ بحياة ذات معنى ولا يعبر عن شىء. كيف لم يلاحظه، هل حقًا فوجئ بوجوده وهو يفتح دفترًا بنياً قبل أن يبادره بالحديث: عمرو؟ كويس إنك جيت. لم يجب إيه اللى مضايقك؟ صداع نصفى رهيب لا يفارقنى. من إمتى؟ سنين. يعنى.. خمسة؟ عشرة؟ تسعة تقريبًا أو أكثر، أو ربما من الطفولة، لكن مش بالقوة دى. يدون د. سامى ملاحظة ما، ثم رفع عينه ونظر إليه: الصداع بيجيلك إمتى؟ فيه وقت معين؟ ولا أى وقت؟ مستمر معى يخف ويومض. لكن أكتر؟ الصبح؟ بالليل؟ بعد الشغل؟ بعد ما بتشوف حد معين؟ أغمض عمرو عينيه لحظة ثم قال: مش مرتبط بحاجة.. بس.. فيه لحظة كده.. قبل النوم، لما النور يطفى، والبيت يسكت.. بحس إنه بيصحى. هو مين؟ (بابتسامة صغيرة) قصدى الصداع. لم يبتسم د. سامى، فقط حرك رأسه ببطء كأنه يسمع موسيقى لا وجود لها، وسأل: علاقتك بأهلك كويسة؟ كويسة. أقصد.. فيه تواصل؟ صراحة؟ خلافات؟ لا، كله تمام. كلهم عايشين؟ أيوه. بتزورهم كتير؟ مش كتير. ليه؟ لم يجب. فى لحظة صمت طويلة، بدأ عمرو ينظر حوله، لاحظ على الحائط لوحة فوتوغرافية قديمة لرجل يسير فى شارع يملؤه الضباب، الرجل فى الصورة لا يظهر وجهه، فقط ظله على الأرض أمامه. قال: الصورة. مالها؟ الظل واضح أكتر من الراجل نفسه. تحب تبقى كده؟ زى الظل؟ آه، وأنت إيه إللى مش مخليك تشوفنى كده فعلاً. مرت دقيقة تقريبًا دون كلام، ليبادر د. سامى بسؤال عادى كأنه يسأل عن حالة الطقس: طيب رسمت حاجة جديدة؟ آه. إيه؟ وجه.. لكن بلا ملامح بلا روح بلا عيون. (لا تعليق) كل مرة أحاول أكمل، بحس إنى عايز اخبى راسى بين إيدى وأعيط. ابتسم د.سامى، ابتسامة هادئة متفهمة وقال: والوجع؟ موجود.. عايش معايا. عايش؟ يعنى، زى ما يكون عايش معايا، مش بيزعق، بس مش نايم. (بإيماءة): إنت عارف، فى ناس بتحس إنها بتختفى لو ماحستش بألم، الألم بيبقى زى الشاهد الوحيد على وجودهم، بيأكد إنهم لسه هنا، لسه بيحسوا، لسه فيهم نبض. سكت عمرو، وهو يحدق فى الأرض. (بعد صمت قليل ونظرة تجاه الأرض): عمرى ما فكرت كده. يمكن ما كنتش محتاج تفكر، يمكن الألم كان بيقوم بالدور من غير ما تطلب منه. (بعد صمت طويل نوعًا ما): أنا فاكر صوت، من وأنا صغير، كان دايمًا يتقال لما أعيط: «اسكت، ماينفعش حد يسمعك كده»، بس مش فاكر مين اللى قاله أو يمكن، الكل كان بيقوله. الصوت ده، لسه عايش جواك، بس أنت مش طفل دلوقتى، لو عايز، ممكن تتكلم، ومحدش حيقولك اسكت. لم يرد عمرو. نظر إلى الحائط، حيث الصورة المعلقة، لكن هذه المرة، لاحظ شيئًا غريبًا، ظل الرجل، أطول من اللازم، وكأن الشخص الحقيقى، كان يقف خلفه، لم ينتهِ شىء، ولم يبدأ شىء. د. سامى يقطع شروده: مرات كتير، الجسم بيفضل يعبر عن حاجة إحنا مش عارفين نقولها، الصداع ساعات مابيكونش مرض، قد ما بيكون شاهد على وجود. لم يرد عمرو. غادر فى هدوء دون كلمة، دخل غرفته، ارتدى قميصًا كحليًا، وبنطالًا رماديًا نظيفًا، لا يحتاج كيًّا، نظر إلى نفسه فى المرآة القصيرة المثبتة على باب الخزانة، لم ير شيئًا جديدًا، كان هو، أغلق الباب وراءه بهدوء، ومشى إلى السلم، واضعًا يده على السور الحديدى، بخطوات محسوبة، كأنه يخشى السقوط، عند الطابق الثانى، توقف، لم يكن هناك سبب محدد للتوقف، لكنه فعل، أسند رأسه إلى الجدار لحظة، وابتسم، ثم تابع النزول. كان الشارع شبه هادئ، كأنه أفاق قبله بقليل، الماء متناثر أمام بائع الخضار، ورجل عجوز ينفخ دخان سيجارته، عمرو رفع ياقة القميص قليلًا، لم تكن هناك شمس، لكن الضوء منتشر بطريقة لا تعجب رأسه، رائحة البنزين، والخبز، والعرق النائم، كلها امتزجت فى هواء الصباح الثقيل. مر جوار رجل يتحدث بصوت مرتفع فى الهاتف، توقف نصف ثانية دون أن يشعر، التفت ليمعن فى وجه الرجل، ثم أكمل سيره، كأن شيئًا فيه ظن أنه يعرفه. السيارة كانت واقفة حيث تركها بالأمس، أمام فرن قديم مغلق، فتح الباب، جلس، لم يشغل المحرك، أغمض عينيه، النبض الخافت خلف عينه اليسرى ما زال هناك، لا يتقدم، لا يتراجع. أخرج من جيبه ورقة مهملة، روشتة، دواء اسمه طويل، لم يعد يتذكر إن كان جربه أم لا، نظر إلى الورقة، قرأ السطر الأول، ثم مزقها ثلاث قطع صغيرة، ووضعها فى الحاوية المجاورة للمقعد، ثم شغل المحرك. تحول تشويش الراديو فجأة إلى صوت واضح بمقدمة نشرة الأخبار، أوقفه فورًا. مرةً أخرى د. سامى حسن فى المقعد المجاور له بالسيارة، ولم يكن لينتبه عمرو لذلك لولا استفساره عن سبب إغلاق الراديو، قد تكون بعض الأخبار مهمةً؟ لم يرد ولم ينظر نحوه، بدا أنه مجرد استفسار وصوت عابر. أخيراً وصل إلى الشارع الذى تربى فيه، بيته القديم، أخرج المفتاح من جيبه، فتح الباب، دخل بخطوات بطيئة، خفيفة، كما لو كان غريبًا، لم يسمع صوتًا، المروحة فى الصالة تدور، ونافذة صغيرة تُصدر صوت خشخشة زجاج، البيت كما كان تمامًا، الكنبة القديمة بكسوتها الوردية، طاولة الطعام المستطيلة التى ضاقت بحوافها من كثرة ما احتكت بها الأجساد، شاشة التلفاز التى تُبث منها حياة لا تخص أحدًا. ناداها بصوت هادئ: ماما؟ جاء صوتها من المطبخ: آه يا حبيبى، ثانية وأجيلك. دخل بخطوة بطيئة، وقبل رأس أمه، قالت بصوت ناعم مزيج من التودد والأمر: أخيرًا جيت، قولت إنك نسيتنا خلاص. ابتسم، لم ينفِ، كانت تقف عند الحوض، ترتب الملاعق، وتغسل الصحون ببطء، شعرها مربوط بعناية، ترتدى بلوزة زهرية، وجهها عادى، هادئ، لكن فيه شىء، محايد أكثر مما يجب، نظر إليها لحظة طويلة، ثم قال، بصوت لم يكن يقصد أن يكون عتابًا: إنتى بتقضى وقت كتير لوحدك؟ قالت دون أن تلتفت: مش كتير، بحب الهدوء، بقيت أفضله على الزيارات والكلام الكتير، كبرت بقى يا حبيبى. سحب كرسيًا وجلس عند الطاولة الصغيرة عليها كوب شاى نصفه بارد، وعلبة دواء مفتوحة ليس له اسم واضح، حروف باهتة، غير مألوفة. سأل: إيه ده؟ منوّم بسيط، الدكتور قالى آخده لما ألاقى صعوبة فى النوم. بتنامى بصعوبة؟ ضحكت. مش دايمًا، بس فيه أيام، دماغى ما بتسكتش. ثم أضافت، كأنها تتحدث عن شىء بعيد جدًا: زيك زمان.. كنت صغير وما بتنامش.. كنت تقعد على الأرض قدام أوضتى، تقول: مش قادر أنام، دماغى فيها صوت. تجمد قليلاً. وكنت بتقولى لى إيه؟ أيوه.. كنت بقولك وقتها إن ده طبيعى، الأطفال كلها كده. بس أنا مكنتش بسمع صوت أطفال. سكتت.. ثم استأنفت غسل الصحون، وكأن شيئًا لم يُقل. وقف، اقترب، ثم سألها: بابا ليه بيزعقلك دايماً؟ نظرت إليه لحظة، بعينين مبللتين من بخار الماء، أو بالدموع الساكنة فى عينيها. هو عصبى شوية، بس، عمره ما مد إيده ولا أهاننى، وبصوت غير مسموع، قدامك. قال: طب وأنا؟ لم تجب، ثم قالت بعد لحظة طويلة: كنت طفل حساس، بتسمع حاجات ملهاش صوت، وأنا كنت بخاف عليك، بس آهو طلعت موهوب مش يمكن تكون الأصوات دى هى اللى ورا الموهبة الحلوة دى، صحيح إزاى شغلك؟ المعرض الأخير فى حاجات مختلفة؟ كويس. أنا شفتك فى فيديو على الفيسبوك، كنت لابس شيك قوى، زى الأجانب. ضحك قليلًا. قالت: بس خسيت قوى، وشك كمان كأنك مش بتنام. لم يجب. خرج من المطبخ، إلى الصالة، جلس على الكنبة القديمة، كل شىء كما كان، لكن الآن، كأنما أحدهم نزع طبقة شفافة من الزجاج، وبدأ يرى التفاصيل للمرة الأولى، الغبار فوق التلفاز، الصمت الذى يشبه تجنب الحديث، والعطر الخفيف فى الغرفة، الذى لا يُخفى رائحة الحنين المهترئة. رأسه بدأ يثقل مجددًا، لكنه لم يشتكِ، لم يُمسك جبهته، جلس فقط، والألم خلف عينيه، جلس بجانبه. ماما هانزل عشان المعرض. طب مش هاتدخل تسلم على بابا قبل ما تنزل؟ انصرف دون أن يعقب. الطريق إلى المعرض لم يكن طويلاً، لكنه شعر كأن القاهرة تزداد ثقلاً كل يوم، كل لافتة إعلان، كل وجه فى المواصلات، كل امرأة لم يعرف وجهها الابتسامة، كل ذلك بدا له مشهدًا من فيلم يُعاد بلا مبرر، عند الإشارة، توقفت السيارة، ولد صغير يطرق على الزجاج، يبيع مناديل، وشخص آخر يمسح زجاجها، لم يفتح، لم يبتسم، لم يقل شيئًا، فقط نظر إليه، ثم أنزل نظره إلى المقود، أدار الإشارة الخضراء، ولم يتحرك، أحدهم أطلق نفير سيارته خلفه، تحرك. عند مدخل المعرض، وقفت دينا بجانب لوحة مكتوب عليها «قاعة بيكاسو». «معرض الفنان عمرو سامى حسن»، كانت دينا ترتدى نظارة طبية كبيرة، وتمسك كوبًا بلاستيكيًا للقهوة، قالت: تبدو متعبًا، نمت متأخر؟ قال، بصوت منخفض: لا.. أتذكر، فقط استيقظت مرهقًا. (وهى خلعت نظارتها): كالعادة يا سعادة. (يبتسم بلا طاقة): نعم.. كالعادة. دخل القاعة. كل شىء كان فى مكانه.. اللوحات مضاءة، الأضواء موزعة بدقة، موظف الاستقبال يجلس بانتباه مصطنع، ثلاث صحفيات يتبادلن الابتسامات أمام إحدى اللوحات، المعرض كان مزدحمًا على نحوٍ لا يحبه، لكن اللوحة، اللوحة كانت هناك، علقها وحده، مساء البارحة، دون أن يضع عنوانًا، طلب من القائمين أن يتركوا المساحة الفارغة تحتها، كما هى. لم يسأل أحد لماذا. كانت كبيرة، مائلة قليلاً، تنقسم نصفين غير متساويين، الجانب الأيسر وجه، مرسوم بعنف واضح، ملامح مشوشة، لكن محددة بما يكفى لتفهم أنها إنسان، الجانب الأيمن، مساحة فارغة تقريبًا، إلا من نقطة سوداء صغيرة، قريبة من الحافة، الوجه لم يكتمل، إحدى العينين موجودة، تنظر باتجاه النقطة، أما الأخرى، لم تُرسم. دينا قالت وهى تشير إلى اللوحة: غريبة قوى، صعب أعرف هو مين، بس حاسة إنى شُفته قبل كده. أومأ عمرو.. لم يرد. قالت: هو حد تعرفه؟ قال بعد صمت: معرفش أو يمكن حد يعرفنى. جاء شاب لم يلتقِ به من قبل، وقف أمام اللوحة طويلاً، ثم سأله فجأة: هو ده أنت؟ عمرو نظر إليه، ثم نظر إلى اللوحة، ثم قال، بنبرة أقرب للهمس، دون ابتسامة، ودون جمود: يمكن. فى لحظة ما، أحس أن القاعة كلها اختفت. لم يسمع لا الموسيقى، ولا دينا، ولا الأسئلة. فقط وقف ممسكاً كأسه، أمام لوحته، والصداع.