فى نهاية دورة دراسية حضرتها فى بريطانيا، دخلت قاعة الامتحانات لأجيب على أسئلة امتحان مدته ثمانى ساعات، لم أتسلم ورقة أسئلة وكراسة إجابة كما يحدث فى الامتحانات المعتادة، وإنما استلمت كتابًا يحوى مئات الأسئلة وفراغات مناسبة للأجوبة: منها أسئلة تحتاج لأجوبة كاملة، ومنها أسئلة تقول: أكمل العبارات التالية، ومنها أسئلة تقول: ضع علامة صواب أمام أفضل جواب، ومنها أسئلة تقول: صِل بين كل جملة وما يكملها جاعلًا لها معنى، ومنها أسئلة تطالب بتعليل، وأخرى تقول: اختر الإجابة الخطأ مما بين القوسين. وكان مسموحًا لنا كطلاب أثناء هذا الامتحان أن نترك كتاب الأسئلة فى قاعة الامتحان ونتوجه إلى حديقة المبنى لنتمشى أو إلى الكافيتريا لنشرب فيها شايًا أو قهوة، أو نتناول بسكويتًا أو طعامًا خفيفًا. كانت الرقابة صارمة داخل اللجنة ومنعدمة خارجها.. كما لو كان الغش ممنوعًا وحرامًا فى اللجنة ومشروعًا وحلالًا فى الحديقة والكافيتريا!، وربما كان ذلك بسبب أن الأسئلة كثيرة وتشمل فى المنهج كل صغيرة وكبيرة وموضوعة بصورة لا تنصف إلا من يجلس على طاولة اللجنة لا طاولة الكافيتريا ويدرك قيمة كل دقيقة وثانية فى ساعات الامتحان. كان عددنا بضعة عشر طالبًا من دول العالم المختلفة، وكنا نلتقى فى تلك الكافيتريا خلال ساعات ذاك الامتحان، ونتحدث فى أشياء وأشياء ليس من بينها أسئلة الامتحان.. كنا نتحدث مثلًا عن نتائج فريقى ليفربول والأرسنال أو عن أحلامنا الخاصة بمستقبلنا أو عن أهم ما يميز بريطانيا، ولقد حدثتُ بعضهم عن إسلامنا.. كنا نريد أن نصرف أذهاننا عن التفكير فى امتحاننا. ثم ظهرت النتيجة فكشفت عن رسوب اثنين منا أحدهما بريطانى والآخر دانمركى. لقد انتشر الغش اليوم بين الطلاب فى بلادنا العربية لعدة أسباب، منها التطور الهائل الذى حدث فى وسائل الاتصال، ومنها طريقة وضع أسئلة الامتحانات التى لا تتطور بمرور الزمان وتغير الأحوال، ومنها تهاون المراقب داخل لجنة الامتحان، وعدم أدائه لمهامه على وجه التمام والكمال. يُحكى أنه بينما كان أحد معلمى اللغة العربية ويدعى بشير يجلس على طاولة التصحيح يصحح أوراق الإجابة الخاصة بامتحان البلاغة، فوجئ بورقة إجابة خالية إلا من القصيدة التالية: أبشير قل لى ما العمل؟!.. واليأس قد غلب الأمل.. قيل امتحان بلاغة.. فحسبته حان الأجل.. وفزعت من صوت المراقب.. إن تنحنح أو سعل.. وأخذ يجول بين صفوفنا.. ويصول صولات البطل.. أبشير مهلًا يا أخى.. ما كل مسألة تُحل.. فمن البلاغة نافع.. ومن البلاغة ما قتل.. قد كنت أبلد طالب.. وأنا وربى لم أزل.. فإذا أتتك إجابتى.. فيها السؤال بدون حل.. دعها وصحح غيرها.. والصفر ضعه على عجل! ويقال إن الأستاذ أعطى من استطاع نظم هذه القصيدة الطريفة درجة النجاح فى مادة البلاغة، لأن الذى سعى الأستاذ لتحقيقه بتدريسه لهذه المادة وجده فى ورقة الإجابة! لو كنت وزيرًا للتربية والتعليم فى ذلك الحين، لأوقفت الأستاذ بشير عن التدريس وأمرت بإعادة تصحيح إجابة التلميذ!