"العالم.. لعبة.. وحكاية لطيفة"، وكان عاشقا للألعاب الإلكترونية؛ يجتاز كل مراحلها بيسر، لكن لعبة ما أرهقته وأرقته؛ فكلما وصل إلى المرحلة النهائية يتعثر فيها فتظهر على الشاشة لوحة Game Over، وكأنها تُخرج له لسانها؛ وهكذا مع كل محاولة لدرجة باتت معها اللعبة التحدي الأكبر في واقعه، ومن ثم انتقلت إلى أحلامه، وفي إحدى نوماته العميقة توصّل لحل، فاستيقظ في التو قابضًا على حلمه؛ أشعل جهاز الكمبيوتر وسارع بتطبيق الخطوات التي تراءت له في المنام، ولم يطمئن إلى اجتيازه المرحلة النهائية إلا مع ظهور لوحة Congratulation على الشاشة. ما سبق ليس ببعيد عن نهج محمد عبد المنعم زهران في كتابة القصة؛ إذ يجتاز في مجموعته التي اختار لها عنوان "بجوارك بينما تمطر" المسافة النفسية بين المتخيل والواقعي، بين الروحاني والمادي/ الفكرة في الذهن وترجمتها على الورق؛ حيث لا مسافة بين الثنائيات؛ فقط.. يكتب وكأنه يحلم؛ فالكتابة بالنسة له "لعبة.. وحكاية لطيفة"، وهو يحقق ذلك بجدارة حيث التماهي بين المكتوب والمقروء/ الداخل والخارج/ الرواة والمروي عنهم/ الكاتب والقارئ؛ وتعد قصة "حياة الأحلام" نموذجًا لذلك التماهي؛ ففي بداية القصة يتأمل القارئ حال البطل الذي "جلس يدخن أحلامه"، وبينما يوغل ونوغل معه في القراءة نكتشف أن تبادل الأدوار قائم بين القارئ وبطل القصة؛ "ولأنني.. أنا مجرد قارئ يقرأ في فراشه لمجرد حث النوم على المجيء، فقد تجاهلته واستمررت في القراءة مندهشًا من هذا الذي رآني بينما أقرأه في كتاب يحمل قصته". ثم "وأخيرًا وجدته، غير مرئى تقريبًا من دخان سجائره. كان جالسا في هدوء بلحيته الطويلة.. ينظر إلىّ، ويقرأني في كتاب". قصص "زهران" زاخرة بالثنائيات من قبيل الأنا والآخر/ الظاهر والباطن، يكاد يعتمد ذلك النهج كآلية سرد في معظم قصص المجموعة التي تدور حول الذات والإنسان والعالم؛ فالهموم واحدة وال "أنا أنت.. أناتان لذات واحدة"؛ الضمائر ثقافات متنوعة تتشكَّلُ بها هوية النص ككائن حي (جسد/ روح، وروح/ جسد)، لا فرق بين الظل والضوء/ الأصل والصورة؛ ما يطرح إشكالية هل أنا الآخر، أو من مرآة من؛ فالهم الوجودي مشترك، ولا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى/ عفيٌ ومريض/ طفل وعجوز. يبرز ذلك في قصص "المتجول في الأحلام، المتظاهر، عمق الأشجار، عجوزان، في شارع، بجوارك بينما تمطر، الجد يتذكرالقرآن"، وغيرها؛ فما يدور أمامنا ما هو إلا دراما صغيرة حول الاستخدام المختلف لضمائر الشخصية وحول تذكر التاريخ. ولأن الفنون الإنسانية تأثير وتأثر، فلا بد لك أن تدرك مدى وقوف "زهران" على أكتاف كتاب القصة الراسخين، فهو بحق امتداد لهم في القدرة على الجدة والابتكار في تناول القضايا الإنسانية عبر تفاصيلها الصغيرة؛ حيث تفكيك وتركيب الأحداث عبر تقنيات عدة أبرزها في تلك المجموعة العمل على "إعادة مونتاج الماضي" فبينما يتشذِّر الحدث في منمنمات لونية متناهية الصغر، تتبدى لك اللوحة في صورتها النهائية وكأنك وقعت على كشف جديد جدير بالبهجة؛ وإعادة التفكير فيما يطلق عليه "نطاق الأشياء". يعرف "زهران" في مجموعته الأولى "بجوارك بينما تمطر"، الصادرة عن "دار الأدهم للنشر والتوزيع" كيف يوظف أدواته بحرفية وفقا للحالة، فهو صاحب جملة رشيقة؛ تكمن عبقريتها في قدرتها على الولوج إلى عمق المشهد في رفق وسهولة؛ دون فذلكة لغوية أو مباشرة فجة أو إغراق في الشاعرية. ما يدعوك أيضًا للتوقف أمام أسلوب محمد عبد المنعم زهران هو المؤاخاة بين الأضداد؛ إذ لا يعتمد المفارقة كآلية سرد ظاهرية، وإن وجدت لديه تأتي في سياق رؤي القرويين عن الكون والعالم؛ فالبرغم من أن الظاهر والباطن يؤلفان عالمين مختلفين ويرتبطان برؤى وأنماط تفكير مختلفة، إلا أنهما يؤلفان وحدة واحدة هي الكون أو العالم نفسه. أيضًا لا شيء مجاني في قصصه؛ الأفكار مبتكرة لكأنها مختومة باسمه، ولكل جملة وقعها الخاص في تطوير الحدث، فهناك جدة في التناول؛ من دهشة الجملة الافتتاحية، إلى البناء التسلسلي، وصولا للجملة الختامية؛ كل قصة "مبني/ معني".