العالم الذي تتحرك فيه الشخصيات القصصية في "اوشام سرية" لهيام الفرشيشي عالم رمزي الى الحد الذي يعطي للقارئ لذة القراءة, ثم ان هذه الرمزية تصب في احداث تتنفس من عمق الواقع المعاش، فيصبح الرمز وكأنه الاطار الجمالي الذي تتوارى فيه أحداث نعرفها وشخوص نعرفها وأمكنة وحتى عادات هي منا والينا. أعدت كلمة شخوص لأن الاحداث ترتكبها كائنات بشرية بالاساس، ولكن ايضا حيوانات وتضاريس وفصول ونباتات ورعد ومطر ووديان و تجاويف. بل انك تجد في بعض القصص ان عناصر الطبيعة قد تقود الشخصيات للحقيقة او تعطلها او تتهكم عليها او تخيفها او تخيب ظنها او تعرب لها عن حبها او كرهها تجاهها. نعم ان نصوص هيام الفرشيشي تتميز حسب تقديري بنفاذ هذه المخلوقات التي نحسب انها جامدة او غير عاقلة او صماء لا تجيب دعوة الفرد المتألم او المتسائل او الضائع او الفرح او الحزين. فحين تقرا الاقاصيص سوف تستخلص ان الشخصيات البشرية ينحسر عددها لتترك مجالا للجبل والصخرة والوردة التي تعطي عبقها او لا تعطي. هذا الارتماء في احضان الوجود الصخري والنباتي والمائي والحيواني لا يجعلنا وحدنا مع انفسنا. إذ يصبح لنا نوع من الشهود الوافدين من عوالم نعرفها ولكن فقدناها ولم نعد نتذكرها. لذلك نحس أثناء القراءة بلذة لأننا لن نكون مجرد مواكبين لاحداث بل ستجدنا محلقين بذاكرتنا، بخيالنا، بحلمنا بهواجسنا وبقدرتنا على التصور. قصة "عتبات الذاكرة" تصور قرية بصخورها بظلامها بنورها بمغاراتها ومنازلها واسطبلاتها الخالية. بجبالها بمائها. الكاتبة تجعل لكل هذه الكائنات حضورا مهيمنا متغلغلا في أنفس الناس وذاكرتهم. نحس ان العنصر البشري الذي من المفروض هو صاحب الارادة والمبادرة نجده على العكس متهيب من هذه العناصر المتعملقة التي لا تترك له مجالا لا للتواجد ولا للفعل ولا لتغيير مجريات الاحداث. عموما هناك شيء معطل. هناك صورة تشبه التوقف ان لم نقل الانسحاب. ينساب الماء في مجردة وتتامل الطفلة جريانه بدون اي درس ولا عبرة. الصخور تتبلور هي ايضا تارة ركوب للاطفال وملهى وتارة اخرى تخيف وتفلج كل من مر حذوها. حتى الدمية الصغيرة لا يؤمن جانبها اذ انه والناس نيام قد تؤذي وتغير الحال بالحال. هذا ما اعجبني في القصة، ضمور الانسان، تقزمه وضآلته، بينما تتحرك كائنات من المفروض انها جامدة في الاصل. وهي الان فاعلة دائما بدون حراك ولكن الانسان العاجز يعطيها حراكا من عنده من صميم عجزه. قصة "الصخرة والموج" هي قصة حب نبتت بين صخور البحر جمعت رجلا وامرأة. ثم عندما تكتشف المرأة ان حبيبها له ملامح وحش, تتنصل منه وترجع الى نفسها او الى حريتها. قصة حب مقتضبة ككلمة حب نفسها. الأسلوب.. انسياب الالفاظ.. موسيقية الجمل.. لا ادري ما سر المذاق الممتع في قراءة هذه القصة. وحتى ان اردت إعادة القراءة فسيكون للاستمتاع بانسياب الكلمات والجمل والصور ايضا التي اجدها تتعلق بالكلمات فتذوب في شيء واحد ينأى بنا بعيدا عن الاحداث الدرامية. فخذ مثلا في بداية القصة ذلك الوصف الرائع للتضاريس حيث ان الكاتبة تصبح وكانها تكتب ليس بالحروف او المفردات او الجمل ولكن بالتضاريس بالنبات، بالهضاب بالصخور والمغاور. وفي الحقيقة هيام الفرشيشي لم تستعمل هذا الابداع لاول مرة، قد تكون هذه حكاية عشق للتضاريس الصماء في هذه القصة المتوازنة في أسلوبها ورمزيتها واضحة في سردها وشخصياتها. واظن ان من لم يعرف كتابات هيام الفرشيشي بإمكانه الخروج بفكرة كافية من خلال هذه القصة. تبدو لنا هذه الأقصوصات في بعض الاحيان وكأنها أضغاث أحلام تكون قد قطعت مع عهدين لم يعد لهما قبول، وهما عهد القصة الساذجة ثم عهد القصة الموغلة في الرمزية. مع هيام الفرشيشي نحصل على قصص ذات بعد ثلاثي. قصص لها ثلاث متع. التمتع بالسرد. التمتع بصور الرمز. ثم التمتع بالانخراط في عملية تذكر خلاقة تكشف كوامن النفس وتيقظ الذاكرة في لعبة مجاراة للمتحرك الصامت والصامت المتحرك عبر الكلمات والجمل والصور. في هذا السياق الخاص بالذاكرة والتذكر، ذكر الناقد الجزائري عبدالله العشي: "والذاكرة ربما تكون عنصرا أدبيا وهاجسا لدى اغلب الأدباء من قفا نبكي ذكرى حبيب ومنزل، والذاكرة تمثل مصدر الشاعرية والجمال ربما لانها تستعيد طفولة الاشياء. والذاكرة عند هيام الفرشيشي، لا تؤدي وظيفة التذكر فحسب، بل تؤدي وظيفة التخيل حتى التبس ان نفرق بين الوظيفتين ومن خلال اندماج الوظيفتين يبنى النص وينمو بفعل تحويل الخاص الى عام الى اكثر عمومية. تتراكم الصور وتتوالى التفاصيل وتحيا الطقوس والعادات والاماكن والاسماء وحتى اللغة يقع إحياؤها من خلالها، قول شيء من الماضي لتقصد شيئا عن الحاضر". يذكر أن "أوشام سرية"، مجموعة قصصية للكاتبة التونسية هيام الفرشيشي صادرة عن دار الفكر للنشر والإشهار، تونس2015.