مجموعة هيام الفرشيشي تنفتح على قصّة "أرملة العنكبوت" إثر مقدّمة الناقد العراقي مؤيّد عليوي، حيث تضعنا القاصة وجها لوجه مع لحظتنا الراهنة. يشبهها شلاّل عذب، يتدفّق نبضا وعطاء، يحفر مجراه عميقا وبعيدا في ملكوت الحياة، هيام الفرشيشي كاتبة تونسية تتنفّس الأدب، تدمنه كتابة وقراءة ولا شيء آخر غير خلوتها المقدّسة ومسافة الأمان التي حدّدتها للناس جميعا، نعم للتواصل الإنساني والإبداعي، لا لحلقات الذِكر الأدبي والنميمة وإفشاء الرداءة. من ثمراتها الأخيرة مجموعة قصصيّة بعنوان "أوشام سريّة" صدرت عن دار الفكر وبين أكمامها عشر قصص لاهجة بحبّ الإنسان وكافرة بالغبار والمبشّرين به، لقد كانت وستظلّ كما تعرفها الورقة والأبجدية، شوكة في حلق الغول ذي الألف سحنة وألف لسان قذر، وقد أكّدت هذه المجموعة وفاء القاصة للكتابة الملتزمة بعيدا عن جعجعة المنظّرين وعن التكلّس الفنّي أو السقوط في هوّة الخطابيّة والسطحيّة، تنتصر للقيّم المثلى ولقضايا الإنسان لكن دون التنازل عن الشرط الإبداعي لاقتراف النصّ الأدبي والقصة القصيرة خاصة. تنفتح المجموعة على قصّة "أرملة العنكبوت" مباشرة إثر مقدّمة الناقد العراقي مؤيّد عليوي، تضعنا القاصة وجها لوجه مع لحظتنا الراهنة وما يعتمل فيها من هول وانحراف جماليّ وبشاعة استثنائية، تعتصم بالرمزيّة والغرائبيّة كي تتفادى الصراخ وقد نجحت في مسعاها، أفلحت في إدانة القبح وتحريض الحياة عليه، كما انتصرت للفنّ القصصي وأوغلت بالقارئ في أدغال الخيال : رعاة الأغنام الذين تناهى إليهم صراخ الغرباء في بيت العنكبوت منذ أيّام، عثروا على جثث متفسّخة الملامح جرفتها السيول، ولكنّهم ارتعدوا حين وصلهم صوت العنكبوت المسخ من الخلاء يدعوهم لمواصلة جزّ صوف الغنم وغزله ألاّ تحلّ عليهم اللعنة ". تنتقل بنا هيام الفرشيشي داخل "أوشام سريّة" من طقس ريفي إلى مدار حضريّ، فمن تقاليد القرى وأعرافها وسكونها النسبيّ إلى فضاء المدن وتشعّب العلاقات فيها ورحابة الوجود الإنساني، ومع استبسالها في الدفاع عن حقّ الآخر في الاختلاف ووجوب تنوّع العالم وتعدّده إثراء لكينونة الإنسان وترتيبا لإقامته في الأرض، تظلّ ملتصقة بهمّها الوطني والشجن العربيّ، فحتّى إيغالها في الأرض (داخل وخارج النصّ) لا يشغلها عن عناق وطنها في محنته ولا عن الالتفات الطويل إلى الجرح الفلسطيني الفادح، لكأنّها تريد قول العالم في جملة واحدة ومن قال العالم فقد حقّقه في ذاته وامتلكه تماما، وهذا الهاجس الملحّ ينجيها من الثرثرة والحذلقة البلاغيّة ويقودها إلى التكثيف العالي دون التماهي مع لغة الشعر، فإن هي إلاّ ساردة شاردة في حقول القصّ لكنّه شرود المهموم المنطلق في طريقه إلى بيته . أشار الناقد مؤيّد عليوي إلى ما تتميّز به كاتبتنا من حبكة قصصيّة وخيال خصب وقدرة على مزج بين الحلم والواقع، إضافة إلى تأرجحها الحرّ والمقصود بين الرمزية والعجائبية والمدرسة الواقعيّة، ومن ضمن ما ورد في مقدّمته المتصدّرة للمجموعة: " في جميع هذه القصص ينشط الخيال وتمطر كثافة اللغة ويرتفع منسوبها فيغدو الحلم واقعا وتختلط الأسطورة باليوميّ المعاش بعفويّة الفنّ المعبّر عن ألم الواقع الحياتي، نتيجة اهتزاز منظومة القيم الاجتماعيّة في مجتمعاتنا العربية حتّى يكون "الفنّ لعب لكنّه لعب مؤلم".