روائيًا موسوعيًا فذًا، أثر في الرواية المصرية المعاصرة بابتداعه الدائم للأشكال الحديثة في البناء وفي تقديم الشخصيات ورسمها في سياق المشهد الروائي. هو "صياد اللولي" أو "الوتد" كما يحب البعض أن يطلق عليه، إنه الأديب والروائي الكبير خيري شلبي، الذي رحل عن دنيانا في مثل هذا اليوم من عام 2011 عن عمر يناهز 73 عامًا، إثر تعرضه لأزمة قلبية، ووارى جثمان الأديب الكبير الثرى في قريته "شماس عمير"، تلك القرية التي ألهمت شلبي تجربته الإبداعية الثرية، وحصل منها على شهادة إتمام المرحلة الابتدائية مع أول دفعة تحصل على هذه الشهادة، وحمل أستاذه "محمد أفندي حسن ريشة" الذي قال عنه: "سهر الليل ليسقينا اللغة العربية وآدابها وعلومها" أوراقهم لتقديمها لمعهد المعلمين العام بدمنهور. قدم شلبي نحو 70 كتابًا ضمت روايات ومسرحيات ومجموعات قصصية ودراسات نقدية، ومن أشهر رواياته "السنيورة"، و"الأوباش"، و"الشطار"، و"الوتد"، و"العراوي"، "موال البيات والنوم"، "ثلاثية الأمالى" "أولنا ولد - وثانينا الكومى - وثالثنا الورق"، "بغلة العرش"، "صالح هيصة"، "إسطاسية" وغيرها من الأعمال. ومن مجموعاته القصصية "صاحب السعادة اللص"، "المنحنى الخطر"، "سارق الفرح"، "أسباب للكى بالنار"، وغيرها، ومن مؤلفاته ودراساته: "محاكمة طه حسين: تحقيق في قرار النيابة في كتاب الشعر الجاهلي"، "أعيان مصر" "وجوه مصرية"، "غذاء الملكات" "دراسات نقدية"، "رحلات الطرشجي الحلوجي"، "مسرح الأزمة "نجيب سرور"، وغيرها. ترجمت معظم رواياته إلى الروسية والصينية والإنجليزية والفرنسية والأوردية والعبرية والإيطالية، وقدمت عنه عدة رسائل للماجستير والدكتوراه في جامعات القاهرة وطنطا والرياض وإكسفورد وإحدى الجامعات الألمانية. حصل الراحل على عدد من الجوائز، أبرزها جائزة الدولة التقديرية في الآداب 2005، كما حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1980- 1981، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1980 – 1981، أيضًا حصل على جائزة أفضل رواية عربية عن رواية "وكالة عطية" 1993، ونال الجائزة الأولى لاتحاد الكتاب للتفوق عام 2002، كذلك حصل على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكيةبالقاهرة عن رواية "وكالة عطية"، كما حصل على جائزة أفضل كتاب عربى من معرض القاهرة للكتاب عن رواية "صهاريج اللؤلؤ" 2002، ورشحته مؤسسة "إمباسادورز" الكندية للحصول على جائزة نوبل للآداب. تميز خيرى شلبي بكتابة "البورتريهات" التي ترسم ملامح شخصيات معروفة بأسلوب أدبى، وكان يكتب مقالات صحفية في كثير من الصحف، ومنها "الأهرام"، و"الأسبوع"، كما عمل رئيسا لتحرير مجلة "الشعر" التي تصدر عن اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وكان يشغل قبل رحيله منصب مقرر لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، ورئيس تحرير سلسلة الأدب الشعبى التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. اللعب خارج الحلبة كان الأديب الكبير الراحل خيري شلبي تجاوز الثلاثين من عمره حين نشر كتابه الأول "اللعب خارج الحلبة" وهو عبارة عن قصة طويلة، صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1971، لكنها لم تحظ باهتمام نقدي كبير، رغم أنها كانت تنبئ بميلاد كاتب جديد. تلك القصة الطويلة كما أطلق عليها شلبي، لم يرض عنها فنيًا، ولم يضمها لأعماله الكاملة عند صدورها، إلا أنه بقراءتها نلحظ اهتمام الراحل بالمهمشين، هؤلاء الذين يسمع وحده هتافهم الصادر من الأعماق بلا صوت، نعم يسمعه بقلبه ويترجمه على الورق. القصة تصور مأساة زوج، يعيش مع زوجته الجميلة لكنه لا يستطيع إسعادها فلا علاقة حميمية بينهما، بسبب عجز ألمّ به، وبسبب فقره لا يستطيع التداوي، رغم تأكيد الطبيب بأن العلاج ميسور.
وعلى الرغم من صعوبة الحياة لا يستطيع الزوج التخلص من زوجته أو الانفصال عنها، فمؤخر الصداق الذي كتبه لها، يعد ثروة لو وقعت في يده لبنى بها عشرات الشقق، لذلك ظل يتساءل كيف الرحيل والخلاص وهي معلقة في عنقه؟. الرواية يسيطر عليها الصوت الواحد أو المونولوج الداخلي، فالبطل وهو الزوج يحدث نفسه طويلًا لدرجة تشغله عن سماع أصوات من حوله، ليتطور الأمر بعد ذلك في الرواية، إلى حد رؤيته لخيالات بصرية يتوهمها دون وجود أصل لها في الواقع، والسبب يكمن في عدم قدرته على التحقق في الواقع ومن ثم يهرب إلى الخيال علّه يحقق له ما استعصى في الواقع. لم يكن هذا هو منبع بؤس الزوج الوحيد، فكل ما حوله يساعده على التعاسة، بدءًا من الحجرة الفقيرة متواضعة الأثاث التي يسكنها، حيث يصفها قائلًا: "كل شيء بها أخرس، كئيب، لا شيء فيها يتوافق مع الآخر، ولا حتى مع نفسه". مرورًا ب"الحاج" صاحب البيت الذي يطالبه بدفع الإيجار المتراكم لشهور طويلة، وأن يترك شقته إلى "فلان الفلاني" أحد الأثرياء، ثم ما لبث أن عاود صاحب البيت وطلب من "الزوج" أن يساعده على طرد أحد سكان البيت ليستولي على شقته أيضًا "فلان الفلاني"، ورغم فقر الزوج إلا أنه يرفض معاونة صاحب البيت على طرد الساكن، فالفقر عند شلبي ليس سببًا كافيًا لموت الضمير. رواية شلبي خالية من الأسماء، التي لا تعنيه لأنه اعتاد على أن يتخذ من الإنسان موضوعًا لرواياته، مترفعًا عن التفاصيل، فمضمون الحكاية واحد والبؤس يتكرر دون الحاجة إلى معرفة أسماء. رغم أن شلبي يكتب عن منطقته الأثيرة وهي القرية، إلا أنه لا يبرزها مثالية، فنراه ينتقد سلبية سكانها، حيث يقول على لسان البطل: "..أيها المتسكعون في حواري قريتي والمتسللون إلى مصاطبها بحثًا عن خبر تحولونه إلى إشاعة جديدة تتسكعون بها في القعدات، لماذا تتركون الخواجا يستولى على أرضكم ثم لا تفعلون شيئًا سوى التنكيت على لغته والسخرية من مشيته؟". تنتهي الرواية باستيلاء "فلان الفلاني" على شقة البطل، وشقة جاره كذلك، وبعد خروج البطل من المستشفى إثر حادثة وقعت له، يعرف أن زوجته انتقلت إلى شقة "فلان الفلاني" حيث تناسبها حياة البذخ والترف، وتنتظر ورقة الطلاق من زوجها، وسيساعدها على الحصول عليها "فلان الفلاني" بمساعدة الحاج صاحب البيت أيضًا. حمل الروائي الكبير فكرة روايته "إسطاسية" في رأسه منذ طفولته لأكثر من 65 عامًا، والرواية تحمل اسم امرأة مصرية قبطية تعيش في قرية بكفر الشيخ يقتل ابنها الوحيد "محفوظ"، لم تستطع العدالة الأرضية أن تجلب لها حقها وتم الإفراج عن المتهمين لعدم كفاية الأدلة فلجأت إلى القضاء الأعلى وإلى السماء. تسخر السيدة الصعيدية حياتها للدعاء على من قتل ابنها، وتنجح في إقامة حداد دائم في قريتها وفي القرى المجاورة لمدة ست سنوات، أصبح الناس محاصرين بصوتها بما فيه من حزن. ووصل الأمر إلى قناعتهم، بأنه إذا كان تأثرهم بلغ هذا الحد، فما بال السماء وهي منبع العدالة، والتي لابد أن تستجيب لهذه المرأة الثكلى ولهذا الدعاء المتواصل كل يوم. مع الوقت أراد الناس أن ينتهوا من حالة الذنب التي تحيط بهم، وخاصة أنهم يعلمون الجاني قاتل ولد إسطاسية ولكن أحدًا لا يستطيع الإشارة إليه. الرواية التي صدرت طبعتها الأولى في يناير 2010، عن دار "الشروق" نشرت في وقت شهد دعوات طائفية بين المسلمين والمسيحيين ومحاولات مقصودة لتأجيج الفتنة بينهما، رغم أنهم عاشوا قرونًا منذ الفتح العربي لمصر في ود وسلام. تبدأ الرواية بعودة حمزة البراوي بطل الرواية إلى القرية، ليجد "إسطاسية" أرملة المقدس جرجس غطاس تدعو فجر كل يوم على من قتل ولدها محفوظ الحلاق، تدفع نداءات إسطاسية وحرقتها حمزة البراوي لفتح التحقيق في قضية مقتل ولدها التي حفظت ضد المجهول، خصوصًا عندما يشعر أن نظرات أهل البلدة تتهم عائلته كلها بالفعلة الدنيئة. تصور الرواية الصراعات التي تشتعل بين كل من حمزة البراوي راوي الحكاية وبطلها، والعمدة عواد البراوي عم حمزة وشريك محفوظ في ماكينة الطحين، ومن ناحية أخرى هناك الجزار "عبد العظيم عتمان" المتهم بقتل حمزة، والذي برّأته المحكمة لنظل نحن في حيرة بشأن ذلك القاتل المجهول. يقول شلبى في فصله "انعتاق من موقف الذلة": "نجح محاميا العائلة في الوصول بالقضية إلى ما يشبه منطقة انعدام الوزن.. ذلك أن غباء المحامين قد تصاعد بهما وبالأدلة وبالأسباب وبالنوايا إلى مرام وأغراض طائفية، مما تطرف بالقضية وحولها إلى قضية رأى عام ذات ورم طائفي كريه ومبالغ فيه يوهم بأنها قنبلة موقوتة سوف تنفجر عاجلا أو آجلا لتقضى على استقرار المجتمع المصري إلى الأبد". رأى حمزة الراوي أن قضيته هي البحث وراء الجاني ومعرفته، ورغم أن أمه تحاول إثناءه عن ذلك، لكنه يجيبها أنه يسعى وراء تحقيق العدالة ليرتاح ضميره، فالمجني عليها "إسطاسية" لا تزال ترفع دعواها إلى محكمة السماء العادلة! لكن الاعتماد على المحكمة الإلهية فقط لا يرضي الله، إن الله يحقق العدل من خلالنا، وهو لا يعاقب المجرم وحده بل والمتسترين عليه والخائفين من سطوته. وفي الرواية يحكي المقدس "عازر" للراوي حمزة عن طبيعة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر عبر الزمان وعن أسباب توترها قائلا: أجدادكم هم أجدادنا، كانوا أجدع منا وأكثر حكمة واستنارة وعقلًا، عاشوا معنا سمنًا على عسل طول الزمان، وكل واحد له نبي يصلي عليه، لم يفسد العلاقة بيننا سوى الإنجليز الذين أوهمونا بأن المسلمين يدبرون لإبادتنا، وأوهموا المسلمين بأننا نسعى بالتبشير ونشوشر على الدين الإسلامي ونستقوى بالأجنبي المحتل أرضنا معًا، وما شابه ذلك من كلام عام انخدع فيه الطرفان فأكلا منه حتى الشبع، فتسممت النفوس، وشحنت بالتوتر. ويقول: نحن شركاء في وطن واحد افتديناه معًا بأبنائنا شهداء المعارك والحروب، ولسوف نفتديه بأعمارنا. نحن تحت رحمة إله واحد نطلب عفوه وغفرانه وطريقهما الوحيد هو المحبة.