لا شك أن «الدولة المدنية الحديثة» باتت الصيغة المقبولة لبلورة الشكل القانونى الذى تمثله فكرة «الدولة» فى العصر الحالى، وهى صيغة أخذت فى التشكل والتطور عبر مراحل متتالية من التطور الاجتماعى الطويل على امتداد المسيرة الإنسانية، نحو بناء كيانات مجتمعية قادرة على البقاء والنمو والتطور. فى هذا السياق لا ينبغى ونحن نروج لمشروع «الدولة المدنية الحديثة» أن نُفرط فى تجميل الصورة إلى حد إهدار الصعوبات التى تواجهنا، ونحن نسعى بجدية إلى تحقيق مبادئ وأهداف الثورة المصرية المجيدة فى الخامس والعشرين من يناير، وموجتها التصحيحية فى الثلاثين من يونيو؛ ذلك أن «الدولة المدنية الحديثة» ليست قريبة المنال إلى حد الانتهاء من بنائها فى عدة سنوات، بل هى مشروع كبير تجتهد فيه الأمم كثيرًا إلى أن تبلغ منه حدًا يسمح لها بالتأكد من صدق فرصتها فى استكمال مراحل البناء. «الدولة المدنية الحديثة» إذن مشروع فكرى عميق، يسعى إلى تأصيل جذوره فى المجتمع، من خلال تبنى مجموعة من القيم المجتمعية القادرة على صياغة حركة المجتمع نحو أهدافه المشروعة فى حياة كريمة حرة، تمتلك أدوات تقدمها. فى هذا السياق ينبغى أن نؤكد أن «الدولة المدنية الحديثة» ليست هى الدولة منزوعة المشكلات، اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، وليست هى الدولة الخالية من النزاعات السياسية، والصراعات الفكرية، مثلما لا يمكن نزع الحروب العسكرية من مسار «الدولة المدنية الحديثة». وعليه فإن التهوين من شأن القضايا التى تواجه «الدولة المدنية الحديثة»، لا يضعنا على الطريق الصحيح، ونحن نرصد طبيتعها وقيمها ومبادئها، وسُبل بنائها على قواعد سليمة. وليس من شك أن الملايين الثائرة التى انطلقت فى الثلاثين من يونيو، لا يمكن أن تجد أهدافها بعيدًا عن حدود «الدولة المدنية الحديثة»؛ ومن ثم فإن المعيار الحقيقى الذى ينبغى أن نقيس به مدى نجاحنا فى تحقيق أهداف ثورتنا، لا يمكن تخليصه وفك اشتباكه بقيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة». والواقع أن محاولات بناء «الدولة المدنية الحديثة» تُجابه بكثير من العراقيل وثيقة الصلة بأطراف على نقيض ما تؤمن به الثورة وتسعى إليه، ولعل فى ذلك تكمن إشكالية المجتمع المصرى، وهو يسعى بجدية فى بناء «دولة مدنية حديثة»، بينما يصارع بشدة فى المنطقة الانتقالية الوسيطة من عملية التحول الديمقراطى، وهى المنطقة المنوط بها قبول أطراف متناقضة، أبناء النظام البائد وأبناء الثورة، والكل يسعى فى اتجاه يكافئ قيمه وأفكاره، ويحابى مصالحه؛ ومن ثم يقاوم كل ما يمكن أن يتنافى وقناعاته ومصالحه؛ غير أن الجميع يعلن ولاءه «للدولة المدنية الحديثة»؛ إذ لا يملك أحد الفريقين شجاعة مواجهة التيار الثورى الذى وحد كلمته على أهداف ما هى إلا جوهر «الدولة المدنية الحديثة». ولعل خطوة موفقة قطعناها بمشروع قانون بناء وترميم الكنائس، الذى وافق عليه مجلس النواب نهائيًا، ما يشير بقوة إلى وجود قناعات حقيقية بفكرة المواطنة، وهى فكرة وثيقة الصلة وأساسية فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، ورغم ما يحيط بالقانون من جدل، إلا أنه يمثل بالفعل نقلة كبيرة لطالما انتظرتها الدولة المصرية فى طريقها إلى بلوغ قيم وأفكار ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة»، الأمر الذى يؤكد ما ذكرناه عاليًا من أن «الدولة المدنية الحديثة» ليست قريبة المنال؛ إذ هى فى حاجة إلى جهد كبير متواصل، وبالفعل مرت عشرات السنين وإخوتنا المسيحيون فى انتظار القانون الذى يفك إشكاليات ويزيل معوقات متعددة أمام حريتهم فى بناء وترميم كنائسهم، بل كنائس الوطن عامة، تطبيقًا لفكرة المواطنة، جوهر «الدولة المدنية الحديثة»، ومن هنا أتصور أن الطريق بات مفتوحًا أمام المزيد فى هذا الشأن، وهو ما ينبغى أن يدركه الإخوة من المسيحيين. ورغم أن «الدولة المدنية الحديثة» لا يمكن بلوغها إلا بحكم ديمقراطى حقيقى، فإن مراحل التحول الديمقراطى تفرض نفسها على التجربة المصرية؛ ومن ثم يُعد مقبولًا ما تواجهه الدولة المصرية من ضعف واضح فى بنيتها السياسية، وقصور كبير فى التطبيق الأمين لمبادئ الحكم الرشيد؛ فمازال الطريق طويلًا أمامنا لنرسخ قواعد حزمة القيم المنوط بها التأكيد على انخراطنا بحق فى منظومة القيم العالمية، سواء من سيادة القانون، أو المساءلة والمحاسبة، أو الشفافية، وتداول المعلومات، وتداول للسلطة بقواعد حاكمة للسلوك السياسى، وليس مجرد سعى نحو أشكال صورية لا تعبر عن مكنون قناعاتنا، مثلما صعد الإخوان إلى الحكم بآلية ديمقراطية «انتخابات رئاسية وبرلمانية»، دون أن يخضع سلوكهم السياسى لقيم الديمقراطية الحقيقية؛ إذ لم يحتملوا أعباء الديمقراطية، فكانت الموجة الثورية التصحيحية فى الثلاثين من يونيو. غير أن بلوغ الرئيس السيسى منصة الحكم بإرادة شعبية حرة وواعية، لا يؤكد صدق توجهاتنا الديمقراطية؛ إذ إن الوطن فى حاجة إلى تراكم طبيعى يضيف إلى التجربة، ويؤكد رسوخ قيمها فى الثقافة المجتمعية؛ وعليه فإن «الدولة المدنية الحديثة» ليست وليدة قفزات مجتمعية، من حكم الإخوان إلى حكم الرئيس السيسى، بل هى نتاج اختمار قيمى حقيقى تضعه التجارب المتراكمة على الطريق الصحيح لتتابع المواقف التاريخية وصولًا إلى «الدولة المدنية الحديثة» كمنتهى طريق شاق، بعده تصبح الديمقراطية والحكم الرشيد والمواطنة كُلًا متكاملًا فى الثقافة المجتمعية. وعلى هذا النحو تتبين صعوبة الدور المنوط بالبرلمان فى المرحلة الدقيقة الراهنة من عمر مسيرتنا صوب «الدولة المدنية الحديثة»، باعتباره الممثل الشعبى فى النظام السياسي؛ فبينما يزخر البرلمان بزخم من التباينات الفكرية، فهو مسئول عن تنمية الوعى المجتمعى بأهمية تخطى العقبات التى تواجهنا فى الطريق نحو تحقيق الآمال الشعبية المشروعة فى حياة كريمة حرة، محلها الطبيعى ليس إلا «دولة مدنية حديثة». فى هذا الإطار لا ينبغى أن نقسو على أنفسنا ونشد من أزماتنا الناتجة عن ممارسة «جلد الذات» أحيانًا، فواقع الأمر أن «الدولة المدنية الحديثة»، كما ذكرنا سابقًا، لا تخلو من العثرات والنزاعات؛ وعليه فليس فى مثالب الأداء البرلمانى ما يقطع الطريق علينا نحو بناء «الدولة المدنية الحديثة». ذلك أن المرحلة الانتقالية الوسيطة من عمر عملية التحول الديمقراطى تجعلنا نقبل وجود أطراف وممارسات لا تنتمى قطعًا إلى مفهوم الحكم الرشيد كأحد المعالم الأساسية «للدولة المدنية الحديثة». ففى غياب دور فاعل وجاد للأحزاب تحت قبة البرلمان، انتقاص بالفعل من رصيدنا فى خزائن «الدولة المدنية الحديثة»؛ غير أن الأمر يمكن تفسيره وقبوله فى ظل ضعف الحياة السياسية نتيجة حكم الحزب الواحد على مدى عشرات السنين، وغياب التعددية الحزبية والسياسية بشكلها ومنطقها المتعارف عليه فى العالم المعاصر. غير أن المتابع لأداء البرلمان لا بد وأن يلحظ وجود نماذج بالفعل مُبشرة بأن الثورة تنتج حقًا بواكير طرحها السياسى، وهو أمر ينبغى أن نصبر عليه، ونحميه من تغول أبناء النظام البائد، حرصًا على نشر ثقافة جديدة، قادرة بالفعل على حمل أمانة بناء «الدولة المدنية الحديثة». من جهة أخرى، فإن «الدولة المدنية الحديثة» لا تغيب عنها حزمة من القوانين المنظمة لعملية تداول المعلومات؛ ومن ثم حرية نشرها، وإخضاعها لقواعد بناء رأى عام مستنير على وعى بقضايا أمته؛ ومن ثم على يقين بدوره فى تأكيد خطاها على الطريق الصحيح. غير أن أمرًا كهذا يصطدم بممارسات ماثلة على الأرض بالفعل؛ إذ لا جدال فى أهمية بث جلسات البرلمان على الهواء مباشرة، تحقيقًا للرقابة الشعبية على نوابه، فضلًا عن نشر الثقافة السياسية بين الناس، إلى جانب ما سيستتبع بث الجلسات على الهواء من نقاش مجتمعى حول القضايا المثارة داخل البرلمان؛ ومن ثم تسقط دواعى تغييب الرأى العام عن قضاياه الحقيقية، فلا يصحو الناس على قرارات مؤلمة «لكنها ضرورية»، ولا على مفاجآت على غرار سعودية تيران وصنافير. وإلى الأسبوع القادم بإذن الله.