إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم يظل اسم صلاح عبدالصبور واحدًا من أهم مَن أثروا تيار الحداثة في الشعر العربي، وواحدًا من أبرز المثقفين في فترة الستينيات وما بعدها، كذلك تظل تجربته في الشعر المسرحي علامة فارقة تدرسها الأجيال الجديدة من كُتّاب المسرح، ليبقى كحالة خاصة يُزيد الزمن في صقلها، وتظل كتاباته شعاعًا من نور يهتدي به القادمون. "الفقر هو استخدام الفقر لإذلال الروح.. الفقر هو استغلال الفقر لقتل الحب وزرع البغضاء". ولد محمد صلاح الدين عبدالصبور يوسف الحواتكي في الثالث من مايو عام 1931 في مدينة الزقازيق، والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، ليتتلمذ على يد الشيخ أمين الخولي، والذي ضمه إلى جماعة "الأمناء"، ثم إلى "الجمعية الأدبية" واللتين أثرتا بشكل كبير على حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر، كذلك منحته الجلسة على مقهى الطلبة في الزقازيق أصدقاء الشباب الذين صاروا فيما بعد نجومًا، مثل مرسي جميل عزيز وعبدالحليم حافظ، الذي طلب منه أغنية يتقدم بها للإذاعة ويقوم بتلحينها كمال الطويل، فكانت قصيدة "لقاء". وتخرج عبدالصبور ليتم تعيينه مُدرسًا في المعاهد الثانوية، لكنه كان مشغولًا بالأدب، فاختار السير في طريق جديد للقصيدة العربية يحمل بصمته الخاصة، وبدأ ينشر أشعاره في الصحف، ليلمع اسمه بعد نشره قصيدته "شنق زهران"، وصدور ديوانه الأول "الناس في بلادي" الذي شق به مكانته بين رواد الشعر الحر مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وكان أول ديوان للشعر الحديث يهزّ الحياة الأدبية المصرية في ذلك الوقت، لافتًا أنظار القراء والنقاد، حيث جمع بين صور مختلفة واستخدام المفردات اليومية الشائعة، كذلك جمع بين السخرية والمأساة، وامتزج فيه الحس السياسي والفلسفي بموقف اجتماعي انتقادي واضح، وكانت أفكاره الإبداعية تقوده ليوّظف نمطه الشعري الجديد في المسرح، وتميز مشروعه المسرحي بنبرة سياسية ناقدة، ولكنها حافظت على الحياد دون السقوط في انحياز أو انتماء حزبي. "فشربت شايًا في الطريق ورتقت نعلي ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق قل ساعة أو ساعتين".. تأثر إبداع عبدالصبور بأشكال عِدة، حيث تنوعت قراءاته من شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة، وخوضه في أفكار بعض أعلام الصوفية مثل الحلاج وبشر الحافي - وهما اللذان استخدمهما في كتاباته لإظهار أفكاره وتصوراته في بعض القصائد والمسرحيات - كذلك اطلع على الشعر الرمزي الفرنسي والألماني عند بودلير وريلكه، والشعر الفلسفي الإنجليزي عند جون دون، ييتس، كيتس، وإليوت بصفة خاصة، وهو ما ظهر عندما ربط الكثيرون بين رائعة إليوت "جريمة قتل في الكاتدرائية" ورائعته "مأساة الحلاج"، كذلك تأثر بالإيطالي لويجي بيرانديللو، وظهر ذلك واضحًا في مسرحيتي "ليلى والمجنون" و"الأميرة تنتظر"، عندما ظهرت فكرة المسرح داخل المسرح. كذلك اقترن اسم عبدالصبور بالشاعر الإسباني لوركا عندما قدّم المسرح المصري مسرحية "يرما"، والتي صاغ عبدالصبور الكثير منها شعرًا، كما ظهر تأثره بالشاعر الإسباني من خلال عناصر عديد بمسرحيات "الأميرة تنتظر"، "بعد أن يموت الملك"، ليلى والمجنون"؛ وتأثر بكُتّاب مسرح العبث، خاصة أوجين يونسكو، وهو ما بدا في مسرحيته "مسافر ليل". وأصدر عبدالصبور العديد من المؤلفات، فصدرت له دواوين "أقول لكم"، "تأملات في زمن جريح"، "أحلام الفارس القديم"، "شجر الليل"، "الإبحار في الذاكرة". كما كتب خمس مسرحيات شعرية هي "الأميرة تنتظر"، "مأساة الحلاج"، "بعد أن يموت الملك"، "مسافر ليل"، و"ليلى والمجنون"، وصدرت له عدة أعمال نثرية منها "حياتي في الشعر"، "أصوات العصر"، "ماذا يبقى منهم للتاريخ"، و"رحلة الضمير المصري". "ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش وضحكت من أسطورة حمقاء رددها الصديق ودموع شحاذ صفيق".. كتب عبدالصبور العديد من المقالات حول الحب والحياة والفن، في الفترة بين عامي 1957، و1975 وكان حريصًا على تجميع المقالات ذات الموضوعات المتقاربة في كتب صغيرة، فصدر له "على مشارف الخمسين، وتبقى الكلمة، حياتي في الشعر، أصوات العصر، ماذا يبقى منهم للتاريخ، رحلة الضمير المصري، حتى نقهر الموت، قراءة جديدة لشعرنا القديم، ورحلة على الورق". في "أقول لكم" الذي ينقسم إلى ثلاثة أبواب؛ أولها "عن الحب"، ظهر عبدالصبور كصحفي محافظ، يدافع عن الأعراف في مواجهة ثورات الشباب وضد ما أسماه بالتقليد الغربي، ويسرد من المواقف ما يُعزز نظرته التي تؤكد مسئولية المرأة عن قسم كبير مما لحق بالمجتمع من أوبئة، بل يُصرح في أحد المواضع بأنه يرى أغلب النساء العاملات "ما نزلن من بيوتهن إلا لاصطياد رجل، والحب في سطوره إن لم يكن في إطار اجتماعي مقبول فهو لهو". وعن الحياة فقد سجّل عبدالصبور كل ما يقع تحت يده من قضايا اجتماعية، سواء في مصر أو خارجها، وتحدث في معظم مقالاته عن الحرية من وجهة نظره، حرية الاعتقاد، حرية المواطنة، وكان ناقمًا على التمييز العنصري، فدافع عن حقوق السود في أمريكا، وهاجم فساد الإعلام في العالم أجمع، وسجّل ما أعجبه أو صادفه بين قراءاته. أما عن الحب والفن، فقد التفت عبدالصبور إلى علاقة الفن بالمجتمع، مُنددًا باللجان الفنية التي تُبيح غناء كلمات مثل "يا جارحني، يا مسهرني"، رغم أنه كشاعر يُنادي بحرية الكلمة، بل ووقف بالفعل في وجه قالب الشعر المحافظ لصالح قصيدة التفعيلة، كما كتب عن فساد الإدارات الثقافية الحكومية في الإذاعة وغيرها، وكان يُغرق بنقده كل كبيرة وصغيرة بلسان الصحفي الجاد المحافظ لا بلسان الشاعر الثائر. "إن إحساس المثقف الحقيقي بكرامته يفوق تصور الكثيرين، لذلك فالبيروقراطية تحاصر الصفوة وتعزلها عن الفاعلية". تقلّد عبدالصبور عددًا من المناصب، وعمل بالتدريس وبالصحافة وبوزارة الثقافة، وكان آخر منصب تقلده هو رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، كما ساهم في تأسيس مجلة "فصول" للنقد الأدبي. وحاز عِدة جوائز مهمة، منها جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية "مأساة الحلاج"، والدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة المنيا، كما حصل بعد وفاته على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1982؛ ولكن كان منصبه الأخير سببًا في توجيه انتقادات حادة ولاذعة له، وصلت إلى حد الاتهام عندما تولى رئاسة هيئة الكتاب، ولم يتخذ موقفًا ضد مُشاركة إسرائيل في معرض الكتاب في العام ذاته، وعندما نظم عدد من الشباب مظاهرة أمام مكتبه اعتراضًا على هذه المشاركة، قام الأمن بضربهم بوحشية أمام مكتبه، ليجد نفسه في مواجهة سلطة تفرض عليه الصمت.