عُرف الراحل صلاح عبدالصبور، بمواهبه المُتعددة التي جعلته من أهم رموز الحداثة العربية، فكان من الشعراء العرب القلائل الذين أضافوا للتأليف المسرحي، والمسرح الشعري الحديث؛ ومن رواد العمل الثقافي المصري أديبًا ومسئولًا، لتظل أعماله نبراسًا لأجيال عديدة من المثقفين؛ وكما كانت حياته حافلة بالمواقف، جاءت النهاية مُفاجئة، لتليق دراميًا بعبقري من هذا الطراز. ولد محمد صلاح الدين عبدالصبور يوسف الحواتكي في الثالث من مايو عام 1931 في مدينة الزقازيق، والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، ليتتلمذ على يد الشيخ أمين الخولي، والذي ضمه إلى جماعة "الأمناء"، ثم إلى "الجمعية الأدبية" واللتين أثرتا بشكل كبير على حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر، كذلك منحته الجلسة على مقهى الطلبة في الزقازيق أصدقاء الشباب الذين صاروا فيما بعد نجومًا، مثل مرسي جميل عزيز وعبدالحليم حافظ، الذي طلب منه أغنية يتقدم بها للإذاعة ويقوم بتلحينها كمال الطويل، فكانت قصيدة "لقاء". تخرج عبدالصبور ليتم تعيينه مُدرسًا في المعاهد الثانوية، لكنه كان مشغولًا بالأدب، فاختار السير في طريق جديد للقصيدة العربية يحمل بصمته الخاصة، وبدأ ينشر أشعاره في الصحف، ليلمع اسمه بعد نشره قصيدته "شنق زهران"، وصدور ديوانه الأول "الناس في بلادي" الذي شق به مكانته بين رواد الشعر الحر مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وكان أول ديوان للشعر الحديث يهزّ الحياة الأدبية المصرية في ذلك الوقت، لافتًا أنظارَ القراء والنقاد، حيث جمع بين صور مختلفة واستخدام المفردات اليومية الشائعة، كذلك جمع بين السخرية والمأساة، وامتزج فيه الحس السياسي والفلسفي بموقف اجتماعي انتقادي واضح، وكانت أفكاره الإبداعية تقوده ليوّظف نمطه الشعري الجديد في المسرح، وتميز مشروعه المسرحي بنبرة سياسية ناقدة، ولكنها حافظت على الحياد دون السقوط في انحياز أو انتماء حزبي. "ما الفقر؟ ليس الفقر هو الجوع إلى المأكل أو العرى إلى الكسوة، الفقر هو القهر، الفقر هو استخدام الفقر لإذلال الروح، الفقر هو استغلال الفقر لقتل الحب وزرع البغضاء". تأثر إبداع عبدالصبور بأشكال عِدة، حيث تنوعت قراءاته من شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة، وخوضه في أفكار بعض أعلام الصوفية مثل الحلاج وبشر الحافي -وهما اللذان استخدمهما في كتاباته لإظهار أفكاره وتصوراته في بعض القصائد والمسرحيات- كذلك اطلع على الشعر الرمزي الفرنسي والألماني عند بودلير وريلكه، والشعر الفلسفي الإنجليزي عند جون دون، ييتس، كيتس، وإليوت بصفة خاصة، وهو ما ظهر عندما ربط الكثيرون بين رائعة إليوت "جريمة قتل في الكاتدرائية" ورائعته "مأساة الحلاج"، كذلك تأثر بالإيطالي لويجي بيرانديللو، وظهر ذلك واضحًا في مسرحيتي "ليلي والمجنون" و"الأميرة تنتظر"، عندما ظهرت فكرة المسرح داخل المسرح، كذلك اقترن اسم عبدالصبور بالشاعر الإسباني لوركا عندما قدّم المسرح المصري مسرحية "يرما"، والتي صاغ عبدالصبور الكثير منها شعرًا، كما ظهر تأثره بالشاعر الإسباني من خلال عناصر عديدة بمسرحيات "الأميرة تنتظر"، "بعد أن يموت الملك"، ليلي والمجنون"؛ وتأثر بكُتّاب مسرح العبث، خاصة أوجين يونسكو، وهو ما بدا في مسرحيته "مسافر ليل". "ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش فشربت شايًا في الطريق ورتقت نعلي ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق قل ساعة أو ساعتين قل عشرة أو عشرتين وضحكت من أسطورة حمقاء رددها الصديق ودموع شحاذ صفيق". أصدر عبدالصبور العديد من المؤلفات، فصدرت له دواوين "أقول لكم"، "تأملات في زمن جريح"، "أحلام الفارس القديم"، "شجر الليل"، "الإبحار في الذاكرة "، كما كتب خمس مسرحيات شعرية هي "الأميرة تنتظر"، "مأساة الحلاج"، "بعد أن يموت الملك"، "مسافر ليل"، و"ليلى والمجنون"، وصدرت له عدة أعمال نثرية منها "حياتي في الشعر"، "أصوات العصر"، "ماذا يبقى منهم للتاريخ"، و"رحلة الضمير المصري". تقلّد عبدالصبور العديد من المناصب، وعمل بالتدريس وبالصحافة وبوزارة الثقافة، وكان آخر منصب تقلده هو رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، كما ساهم في تأسيس مجلة "فصول" للنقد الأدبي، وحاز على عِدة جوائز مهمة، منها جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية "مأساة الحلاج"، والدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة المنيا، كما حصل بعد وفاته على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1982؛ ولكن كان منصبه الأخير سببًا في توجيه انتقادات حادة ولاذعة له، وصلت إلى حد الاتهام عندما تولى رئاسة هيئة الكتاب ولم يتخذ موقفًا ضد مُشاركة إسرائيل في معرض الكتاب في العام ذاته، وعندما نظم عدد من الشباب مظاهرة أمام مكتبه اعتراضًا على هذه المشاركة، قام الأمن بضربهم بوحشية أمام مكتبه، ليجد نفسه في مواجهة سلطة تفرض عليه الصمت. "إن إحساس المثقف الحقيقي بكرامته يفوق تصور الكثيرين، لذلك فالبيروقراطية تحاصر الصفوة وتعزلها عن الفعالية". في 14 أغسطس عام 1981 رحل صلاح عبدالصبور إثر تعرضه إلى نوبة قلبية حادة أودت بحياته، قيل أنها كانت عقب مشاجرة كلامية في منزل الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، حيث تعرض إلى نقد واتهامات بأنه قبل منصب رئيس مجلس إدارة هيئة الكتاب، طمعًا في الحصول على المكاسب المالية، وأنه تجاهل واجبه في التصدي للتطبيع مع الإسرائيليين، عندما لم يتخذ موقفا ضد مشاركة إسرائيل في معرض الكتاب، وعندما نظّم عدد من الشباب مُظاهرة أمام مكتبه اعتراضًا على هذه المشاركة، وقام الأمن بضربهم بوحشية أمام مكتبه، ليجد نفسه في مواجهة سلطة تفرض عليه الصمت فلم يتحمل الاتهامات وأصيب بالأزمة، وهو ما نفاه حجازي، مؤكدًا أن الطبيب الذي أشرف على محاولة إنقاذه، قال إن هذا كان سيحدث حتى ولو كان عبدالصبور في منزله، أو يقود سيارته، ليترك عبدالصبور أعمالًا أثرت في أجيال عديدة من الشعراء، خاصة في جيل السبعينيات والثمانينيات، وحازت أعماله اهتمام الباحثين والدارسين، ولم تخل أية دراسة نقدية تتناول الشعر الحر من الإشارة إلى أشعاره ودواوينه.