لم أنس ذلك المشهد الذى رأيته فى الدنمارك، برغم مرور نحو ربع قرن.. زوجان عجوزان يبنيان غرفة فى الحديقة الواقعة بين فيلتهما وسورها تحت أشعة الشمس الباردة.. كان السور يتكون من قوائم خشبية متباعدة وغير مرتفعة كل منها على شكل سهم مغروسة مؤخرته فى الأرض.. وفوق بساط العشب الأخضر الذى يفترش أرض الحديقة كانا يبنيان الغرفة الصغيرة بالمسامير وألواح الخشب، فاندهشت كما اندهش قوم نوح حينما رأوه يبنى السفينة ذات الألواح والدسر!.. كان اندهاش قوم نوح لأن نبى الله كان يبنى سفينته فى الصحراء بعيدًا عن الماء، أما اندهاشى آنذاك فقد كان لأنهما عجوزان يفعلان ما لا يفعله فى بلادنا إلا الشباب. إذ كان الزوج يقف على إحدى الدرجات العليا لسلم متحرك من الخشب يرتكز من تحت على بساط عشب الحديقة الجميلة، ويستند من فوق إلى أحد جدران الغرفة الصغيرة التى كان يستكمل بناءها بمهارة يحسد عليها بينما كانت زوجته تقف فوق بساط العشب تحته تناوله المسامير اللازمة وألواح الخشب المناسبة. اقتربت وقتئذ من سهام سور الحديقة، لأرى عن قرب تلك الصورة الجميلة، كان رأسى يعلو رؤوسها، ولهذا كنت أرى بوضوح كل ما يقع أو يدور خلفها، وقد مكننى من ذلك أيضًا فى ذلك الآن تباعد المسافات فيما بين تلك السهام، ولما ازداد الاقتراب ابتسما لى، ولم أكن أدرى هل كانت ابتسامهما لى من باب إنسانى، لأنهما سُرَّا لما رأيانى وأنسا باقترابى أم لاندهاشهما من شدة فضولي!، والحق أنى تشجعت وألقيت عليهما التحية فردا عليَّ بأحسن منها ودعيانى لدخول الحديقة، فقبلت ولبيت الدعوة التى كنت ولا ريب وقتئذ أنشدها. لم أستح أن أسألهما بمزاح كما يُسألُ طفلان: ماذا تفعلان؟!، قالا بسعادة بالغة: نبنى هذه الغرفة الرائعة، قلت: لِمَ؟!، قالا: لم نستقر بعد إن كنا سنأكل فيها طعامنا أم سنخصصها لإقامة الكلب؟!، قلت: لست أدرى إن كان لى أن أسألكما عن عمريكما أم لا؟!، قالا: ثمانينيان، قلت بصوت لا يخلو من إشفاق: أليس من العجيب أن تبنيا بأيديكما هذه الغرفة باستخدام سلم وخشب ومطرقة ومسامير وأنتما فى هذا العمر الكبير؟!.. أليس هذا العمل الشاق كان من الأولى أن يقوم به عمال شباب بينما تكونان أنتما على كرسيين مريحين تجلسان؟!، قالا وهما إلى الفيلا يشيران: كنا فى شبابنا عصفورين نشيطين وبنينا بأيدينا هذا العش فلماذا ونحن فى هذا العمر لا نبنى بأيدينا أيضًا للعش ملحقًا؟!.. قلت: لقد تلقيت منكما أكثر من درس منها حب العمل وعدم الركون إلى الكسل، وأن ما من شيء يبدو أجمل فى عين الإنسان مما صنعته يداه، وأن الشعور بالحيوية والشباب لا علاقة له بالأعمار، وأن تعاون الزوجة مع الزوج فى اقتسام التعب وبذل الجهد، هو دينامو يولد المودة والحب. سألتهما عن أبنائهما فقالا: مشغولون عنا، وقالت لى الزوجة: من فضلك انتظر، ومشت إلى الفيلا ودخلتها وغابت ثم عادت ومعها برطمان مربى وملعقة نظيفة وقالت: أنا أصنع المربى بيدى، وأرجو أن تذوقها فذلك يسرنى، قلت: إن هذا أمر رائع غير أنى فى الوقت الحالى لا أرغب فى ذلك أشكرك، قالت: الملعقة كما ترى شديدة النظافة والمربى صنعتها بعناية وفى ظل حدود قصوى للنظافة، فلا ترتاب.. وقال لى زوجها من فوق السلم وهو يطرق على مسمار: صدقها فأنا شاهد على أفعالها وصدق أقوالها.. وفتحت الزوجة البرطمان، وملأت بنفسها الملعقة فأكلت أحلى مربى مصنوعة من فاكهة لا أعرفها.. وأثنيت على من صنعتها. ثم قالت لى وهى تشير فى اتجاه بإصبع السبابة: انظر إلى ذلك القفص فى أقصى الحديقة.. فلما نظرت إلى حيث أشارت رأيت أكبر أرنب يمكن أن تراه العيون لا يقل حجمه عن حجم خروف!.. قلت لها مندهشًا: هذا هو أكبر أرنب رأيته فى حياتي!.. قالت: نعم أنا التى ربته وأفتخر.. قلتُ: تستطيعين أن تدخلى به موسوعة جينيس.. قال زوجها ضاحكًا من فوق السلم: فكرة لا بأس بها سنضعها فى اعتبارنا.. ثم قالت لى وهى تمشى مبتعدة عنى: اتبعنى سأريك «فلانا»، قلت: من «فلان» هذا؟!، قالت: كلبنا، قلت مازحًا: من المؤكد أنك تريديننى أن أفر هاربًا من هذا الباب أو من بين تلك السهام!، قالت: هل تخاف من الكلاب؟!، قلت: فى بعض الأحيان!، فتبسما ضاحكين. اكتشفت أن تبسمهما لى حين اقترابى كان بدافع إنسانى، فلقد كان يسرهما لقائى وما أبديته بهما من اهتمامى ربما لرغبتهما فى كسر حاجز وحدتهما الثلجى، والاستمتاع معى بالدفء الاجتماعى. فلقد كانا باديين داخل محيط سور الحديقة ذى السهام، كأنما يعيشان فى وادٍ بين جبال من الثلج الشفاف كالزجاج يرون من خلالها باقى الوديان، ولكنها تعزلهما عما فيها من ناس. وتلك فى بعض الأحيان طبيعة الحياة فى بلاد الشمال.