توقفنا فى الحلقة الأولى من كتاب «تركيا... القمع المتوضئ»، للكاتب نشأت الديهى، الصادر مؤخرًا عن مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية، عند تراجع جماعة الإخوان المسلمين عن عدم الدفع بمرشح لرئاسة الجمهورية بناء على نصيحة من الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، وكان وقتها يشغل منصب رئيس الوزراء. كان أن أصبح محمد مرسى رئيسًا، وهنا بدأت العلاقات المصرية التركية تتخذ منحى جديدًا فبدأت تركيا تغازل مصر من الناحية الاقتصادية بتقديم المعونات والمنح من أجل دعم الخزانة العامة للدولة المصرية وتلبية الاحتياجات المالية لتنظيم الإخوان المسلمين، وبدأت تركيا فى اتخاذ سلسلة من الإجراءات والتدابير التى تجعلها دائما فى قلب الأحداث، تم افتتاح المقر الجديد لوكالة أنباء الأناضول كأكبر وأخطر وكالة أنباء أجنبية فى مصر. كانت مصر قاب قوسين أو أدنى من السقوط فى «يد أردوغان» حتى خرجت الناس فى 30 يونيو 2013 لينحاز لهم الجيش معلنا سقوط محمد مرسى. يقول «الديهى» عن الفترة التى تلت 3 يوليو 2013: «رد فعل الإخوان ظل حبيسًا لفشلهم فى إدارة الأزمات، وكأنهم ينتظرون من يرسم لهم خارطة طريق.. ماذا يفعلون؟.. وكيف يتصرفون؟». فى هذه الأثناء كان الجميع على موعد مع ظهور الوجه الحقيقى ل«الإخوان»، فالحديث الناعم عن السلمية والعزوف عن السلطة وترجيح مصلحة الوطن عما دونها من مصالح حزبية ضيقة، ذهب أدراج الرياح، ومن خلال المسيرات والمظاهرات ظهرت المهارات الإخوانية فى العمل السرى والتدريب على مواجهة الدولة وخرق القانون. ظهر ذلك جليًا فى الأعمال التى قاموا بها مثل: التخطيط لإحداث انشقاقات فى صفوف الجيش عن طريق بث الشائعات وتزييف الحقائق، وما كان الخبر الذى تناقلته وسائل إعلام الجماعة عن انشقاق قائد الجيش الثاني، آنذاك، الفريق أحمد وصفى، إلا نموذجًا لهذا «الفُجر الإخواني». كان زى الجيش الذى يرتديه منتمون للجماعة وسيلة لتزييف الحقائق حيث يتم تصوير هؤلاء المرتدين الزى العسكرى، وهم يمزقون صور قادتهم وينضمون لصفوف «الإخوان». فشلت هذه المحاولات فشلا ذريعا وارتد «الإخوان» فى خزى أمام وحدة الجيش المصرى ووقوفه على قلب رجل واحد، فبدأ الحديث عن ربط العمليات فى سيناء ضد الجيش وتوقفها من عدمه بعودة «مرسي». مساندة "أردوغان" ل"الإخوان" كان الإخوان يتخبطون حتى جاءهم المدد التركى من خلال حزمة من التصريحات التركية التى تقف ضد الثورة المصرية. كانت تصريحات «أردوغان» المناصرة ل«مرسي» و«الإخوان» غير مسبوقة على المستوى السياسى والدبلوماسي، وعكست ما كان مختبئًا، وكشفت ما كان مستورًا، وفضحت ما كان مستترًا. لقد ترددت فى تصريحات «أردوغان» فكرة الرأى والموقف الدولى والأعراف الدولية وهو فى حالة هياج وتوتر، ولم يعد قادرا على ضبط تصرفاته، الرجل لم يترك مناسبة إلا وتهجم على مصر وجيشها وقال: «لن نسكت.. لن نقف مكتوفى الأيدي». لقد رفع «شارة رابعة» الشهيرة، ومنه ومن تركيا انتقلت والتقطها الإخوان وأصبحت دينًا جديدًا، وكأنها شهادة أن لا إله إلا الله. استعرض نشأت الديهى أفعال وأقوال «أردوغان» لمساندة الإخوان والدفاع عن مصالحه وعن استثماراته السياسية وأحلامه التوسعية، حيث تضمنت الهجوم المستمر والعنيف على الجيش المصري، ورفع شارة رابعة من داخل تركيا وانتقالها إلى مصر، واحتضان القيادات الإخوانية من الشتات وفتح أبواب تركيا لهم، ليمارسوا أفعالهم وأقوالهم ضد الجيش المصري، واستضافة اجتماعات التنظيم الدولى للإخوان فى إسطنبول، وتقديم جميع التسهيلات لهذه الاجتماعات التى تناقش كيف يتم كسر الجيش المصري، فضلا عن حضور مسئولين أتراك لها، وتخصيص ورصد مئات الملايين من الدولارات لشن حملات إعلامية منظمة وممنهجة ضد مصر وجيشها، والتخطيط والترتيب لإطلاق قناة فضائية لتكون لسان حال الإخوان المسلمين، ووسيلتهم فى الهجوم على الجيش والثورة المصرية، ومحاولة التواصل مع تنظيمات تنتمى ل«القاعدة»، للتنسيق معها بشأن القيام بهجمات ضد الجيش المصرى فى سيناء وبعض المحافظات المصرية، وإيواء العديد من الشخصيات الإخوانية الهاربة من تنفيذ أحكام قضائية ومنحها المال والوسائل الإعلامية التى تمكنها من الهجوم على مصر وجيشها وثورتها، ودعوة مجلس الأمن لمناقشة الملف المصرى فى سابقة لم تحدث من قبل، والهجوم الشديد على شيخ الأزهر ووصفه بأنه من «أعوان الشيطان». لقد اتجه «أردوغان» وجميع الساسة الأتراك اتجاهًا غير مسبوق فى جميع الأعراف السياسية والدبلوماسية وتاريخ العلاقات الدولية والتحالفات الإقليمية، إذ تعامل مع الملف المصرى على أنه «والى عثمانى جديد» يعيد مجد آبائه وأجداده. ومن تصريحات «أردوغان» الأشد وقاحة فى الهجوم على شيخ الأزهر: «إن التاريخ سيلعن الرجال أمثاله كما لعن التاريخ أشباهه فى تركيا.. إننى أشعر بالإحباط عندما أرى شيخ الأزهر يؤيد الانقلاب العسكرى فى مصر.. إن الذين يلتزمون الصمت حيال الأحداث فى مصر لن يكون لهم الحق فى التكلم عن الظلم غدًا». وفى تصريحات أخرى عن «مرسي» يقول: «بالنسبة لى سيظل مرسى رئيسى فى مصر، لأنه منتخب وإذا تجاهلنا موقفًا كهذا، فإننا نكون قد تجاهلنا الشعب المصري، من واجبى أن أدافع عن الصناديق التى أتت بمرسى رئيسًا، وإذا أراد أحد أن ينقلب ويحكم، فيجب أن يكون هذا من خلال الصناديق، وإننى أستنكر تقديم مساعدات لمصر حاليًا، أما الدول التى قدمت مساعدات لإنقاذ الاقتصاد المصرى فإنها تدعم الانقلاب والانقلابيين.. إن العديد من القوى تعهدت بمنح مصر 16 مليار دولار الآن فى حين أنها رفضت مساعدة مرسى إبان حكمه». تركيا والتنظيم الدولي بعد سقوط الإخوان فى مصر، وتأثير ذلك السقوط على الإخوان فى جميع أنحاء العالم خاصة فى تونس وليبيا والجزائر وسوريا والأردن ومعظم دول العالم، برز دور التنظيم الدولى للإخوان الذى كان بمثابة ادخار استراتيجى يتم استخدامه فى الأزمات، وبعد ما جرى للجماعة كان لا بد من محاولات جادة لإنقاذهم، فبرز دور التنظيم الدولى الذى يضم بين صفوفه مجموعة من القيادات من دول مختلفة يقيمون فى العواصم الأوروبية. كانت اجتماعاتهم تتم بشكل دورى أو استثنائى حسب مقتضيات الحال، إما فى لندن أو فى أى عاصمة أوروبية، لكن بعد سقوط «الإخوان» فى مصر وبروز الدور التركى المؤيد للجماعة دون سقف، تحولت أنقرة إلى ما يشبه دولة المقر لهذا التنظيم الدولي. من تركيا كانت تصدر تعليمات التنظيم الدولى وبأموال تركيا يتم الإنفاق على تجميع قيادات الإخوان من الشتات لحضور اجتماعات إسطنبول، وبوسائل إعلام تركية يتم نشر أخبار التنظيم ونقلها، وربما تعليمات التنظيم للمكاتب الإدارية فى الدول خاصة مصر، بيد أن حضور مسئولين أتراك على مستوى عالٍ مثل نائب رئيس الوزراء ومدير المخابرات التركية أضفى طابعًا وبعدًا جديدين على تلك الاجتماعات وتحولت بموجبه تركيا إلى دولة راعية للإخوان المسلمين. يستعرض المؤلف ما جاء فى اجتماعين متتاليين للتنظيم الدولى من قرارات، الأول عقد بتاريخ 10 يوليو2013 وتضمن الاتفاق تدشين حملة إعلامية دولية للتعريف بكل ما جرى فى 30 يونيو، وإقامة دعاوى قضائية لرموز الجيش المصرى وملاحقتهم قانونيًا، وتأجيج الصراع المجتمعى فى مصر عبر العديد من الأدوات والوسائل، والدعوة للعصيان المدنى وشل مفاصل الدولة المصرية، والدعوة لمحاصرة مؤسسات الدولة السيادية، ومحاولة خلق انشقاقات وإحداث انقسامات داخل المؤسسة العسكرية من خلال محاولة استقطاب بعض القادة وضمان ولاء بعضهم، وإيقاظ الطابور الخامس ومساندته، وهو الذى يرفض موقف الجيش المصرى حيال محمد مرسي، وتسليط الضوء على المواقف الدولية المعارضة لإسقاط حكم الإخوان، والضغط على بعض أعضاء الكونجرس لوقف المساعدات للجيش المصري. ومن القرارات التى خرجت عن الإجتماع الثانى الذى عقد بتاريخ 25 سبتمبر2013: مراجعة واستكمال ما جاء فى اجتماع 10 يونيو، ودراسة آثار انهيار التنظيم فى مصر، وتداعيات ذلك على التنظيم الإخوانى فى كل من تونس والسودان والأردن والجزائر، ودراسة تداعيات التوتر بين حماس والجيش المصري، ودراسة أسباب شل حركة الإخوان داخل دول الخليج. أما لماذا يفعل «أردوغان» كل ذلك؟ فيجيب «الديهى»: «تركيا كانت ترى أن الفرصة التاريخية التى تحققت بوصول التيارات الإسلامية «السنية» إلى الحكم كان من شأنها أن تعزز فرص حزب العدالة والتنمية كقائد لتركيا الحديثة والمنطقة العربية فى مرحلة ما بعد الثورات الشعبية، بما يجعل الإدارة التركية حائرة ما بين المصالح البراجماتية والدوافع الأيديولوجية، وتبقى الأخيرة صاحبة الحظوظ الأكبر للتحكم فى مخرجات السياسة الخارجية، بما يفسر أسباب تحول تركيا لتغدو المقر الجديد الذى يتحرك من خلاله التنظيم الدولى للإخوان، وهو أمر من المرجح أن يستمر خلال الفترة المقبلة، طالما بقى حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان فى سدة الحكم بتركيا».