«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد الباز يكتب: القرآن في مصر "7".. كروان السماء يتحدث عن التغنّي بالقرآن
نشر في البوابة يوم 12 - 06 - 2016

هل تريدون حسما وقولا فصلا فى قضية غناء القرآن وتلحينه؟
أعتقد أن ما كتبه المؤرخ الموسيقى كمال النجمى فى عدد «الهلال» التاريخى عن القرآن، ديسمبر 1970، يمكن أن يكون كلمة فاصلة.
كتب النجمى مقالا مهما عن عظماء المقرئين ومستقبل التغنى بالقرآن. بدأه بما يمكننا اعتباره فتوى دينية وفنية فى آن واحد.
يقول: «التغنى ليس هو الغناء، وإن كان لهما أصل لغوى واحد وأصل موسيقى واحد، والقارئ أو المقرئ العظيم هو الذى يتغنى بالقرآن الكريم فيجيد التغنى مستوفيا أصوله، وقد استمعت مصر فى خمسين عاما أو أكثر إلى عدد من أعظم المقرئين، خدموا القرآن فأحسنوا خدمته، ولكن ماذا عن مستقبل التغنى فى عالمنا المتطور المتغير الراكض إلى مشارف القرن الواحد والعشرين».
هل كان النجمى يعرف أن انحرافا حادا سيطرأ على طريقة القرآن الكريم من مقرئين ينتسبون زورا إلى دولة المقرئين العظام، أعتقد أنه كان يتوقع شيئا من هذا، ولو كان العمر امتد به إلى عصرنا، لاستمع إلى ما لا يرضاه ولا يرغبه.
قبل الحديث عن مستقبل التغنى بالقرآن كان مهما تفصيل الحديث عن حاضره.
وهذا هو العظيم كروان السماء الشيخ محمد رفعت.
سألوه بعد ليلة أحياها متغنيا بالقرآن الكريم: كيف يتفق لكم دائما أن تختاروا لكل آية من الكتاب أداء يناسب معانيها، فلا يخطئها أبدا؟
قال الشيخ: «أرفع أمام بصيرتى عند التلاوة هذا السؤال القرآنى: أفلا يتدبرون القرآن؟ فيذهب أدائى كله إلى معانى الآيات وألفاظها، ويذهب صوتى كله إلى أدائى، وينجاب من حولى الظلام فأرى كل شىء فى النور».
سألوه مرة ثانية: وماذا عن الفن العجيب الباهر الذى تتشكل به نبرات صوتك على الأصول الموسيقية؟
فأجاب: «تسمونه فنا، وأسميه تغنيا على الأصول الشرعية المتناقلة بين القراء من قديم».
يدخل النجمى بعد ذلك إلى دولة الشيخ رفعت، فمن سمعه قبل مرضه الذى أقعده عن التلاوة قبل ربع قرن من تاريخ كتابة المقال علم كيف كان الشيخ الحساس الذكى الفؤاد، يتلو آيات الغفران والرحمة فيندى صوته بالفرحة والبشرى كأنه يستقبل أريج الفردوس، ثم يتلو آيات الزجر والعقاب فيهتز صوته هزة الخوف والاستغفار، وفى كل آية يعلو صوته أو يستوى أو ينخفض، لا استعراضا لقوته وجماله، بل تجميلا له بعرض معانى القرآن عرضا جديدا فى كل تلاوة جديدة، كأنه يقول للناس: إن معانى هذا الكتاب لا تنتهى.
يكمل النجمى: «بهذه التلاوة التى اتسمت بالتشويق والترقيع والتخشيع والتفهيم، ملأ الشيخ رفعت دنياه وشغل أهلها وأثر فيهم أبلغ الأثر، وعاش فى أسماعهم وقلوبهم حاضرا ثم غائبا من العشرينيات إلى السبعينيات وما يتلوها من زمان طويل».
ويسأل النجمى: كيف تسنى لمحمد رفعت أن يؤثر فى الناس كل هذا التأثير؟
ويجيب: «بالتغنى.. (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون).. فالإنصات طريق التدبر من أمر الدنيا والآخرة، وما التغنى من القارئ المجود إلا الوجه الآخر من إنصات المستمع الخاشع، نعم قد يجىء التدبر بدون التغنى، لكن التغنى فى كل حال يدخل عموم قول الرسول الكريم: (وتغنوا به، فمن لم يتغن به فليس منا)».
■ ■ ■
لكن متى ظهر التغنى؟
وكيف أصبح أسطورة لا يأتى ذكر القرآن إلا ويأتى معها؟.
يقول النجمى: «فى عصرنا تغنى بالقرآن الكريم صفوة من المشايخ الفنانين، وانسالت من أوتار حناجرهم الذهبية مقامات الموسيقى العربية، مصوغا بها ذلك التغنى الجميل المؤثر الذى بقى بعضه فى تسجيلات ذات أهمية كبرى للموسيقى العربية، فضلا عن أهميتها الدينية الخاصة.
وعصرنا الذى يجرى وراء كل جديد فى الفن، لا يهمل الظواهر الفنية العريقة التى تنتقل من جيل إلى جيل، فلا تضعف ولا تتبدد، بل تتطور وتتجدد وتكتسب مزيدا من التألق والثراء، ولعل التغنى من أبهر الظواهر الفنية التى فتنت الباحثين فى عصرنا بثباتها الهائل وتطورها الدائم فى وقت ما، فعكف على البحث فيها دارسون مختلفو العقائد والاتجاهات خارج البلاد العربية والإسلامية وداخلها، وكلهم يسأل نفسه: كيف اتفقت جميع الأجيال العربية والإسلامية على الولاء للتغنى والتأثر به أبلغ التأثر طوال بضعة عشر قرنا من الزمان؟».
■ ■ ■
طبقا لما يقوله النجمى: «نشأ التغنى فى مكه والمدينة نشأة طبيعية فى ظل القرآن الكريم، ولكن الحدود الصوتية الفنية التى كان يتحرك فيها المتغنون جعلت التغنى أقرب إلى المصحف المرتل الذى نسمعه الآن من القراء فى الإذاعة والأسطوانات (بعد ذلك سمعناه فى القنوات الأرضية والفضائية المتخصصة فى الشأن الدينى).
لم يكن متاحا للتغنى فى الصدر الأول إلا حيز معلوم شديد البساطة تتحرك فيه أوتار حناجر القراء، كان الغناء العربى نفسه غير موجود بكيانه الضخم الذى لم يتكامل إلا بعد منتصف القرن الهجرى الثانى، فلم يكن معقولا والأمر كذلك أن يتغنى المتغنون بالقرآن فى الصدر الأول إلا بما أتيح لهم من بسائط العلوم الموسيقية، فى أبعد صورها عن التعقيد والتركيب والتكثيف، فكان مد الصوت وترقيقه ورفع طبقته لا دربة صوتية ولا معرفة موسيقية، مطلبا لا يعيا به كل ذى صوت فطرى يتغنى بآية أو آيات، ولا يجد وراء ذلك مذهبا من التغنى ينطلق فيه.
فلما اتسعت علوم الغناء والموسيقى العربية، اتسع القراء فى التغنى، وبدلا من الأصوات الفطرية غير المدربة، ظهرت أصوات مدربة مصقولة تتغنى بأحكام ومعرفة بمواقع النغم، مع الحفاظ على جلال ما يتغنون به، فلم يستعملوا قط آلات للإيقاع أو الضرب أو العزف، ولبثوا كذلك حتى عصرنا هذا، مع اكتسابهم التطور الفنى جيلا بعد جيل، لأن للسماع كما لكل فن وعلم خطوة من التطور فى كل عصر لا يمكن ردها.
مع ذلك لم يصبح التغنى والغناء فنا واحدا، لأن التغنى حافظ طوال ألف سنة وأكثر على الترنم الحر أو المفتوح، أى الذى لا يقيده زمن إيقاعى صارم، وآثر الأنغام المرتجلة فى لحظتها على الألحان المؤلفة المرسومة من قبل، وهكذا تغنى القراء بلا غناء.
ثم رسخت هذه الطريقة فى التغنى رسوخا لا يمكن زعزعته، لأن دخول آلات العزف أو الإيقاع عليه أمر مستبعد منذ البداية، وهو لا يصطدم كذلك بوجهة النظر الدينية فقط، بل يصطدم بوجهة النظر الفنية السليمة التى ترى أن التغنى، وقد أصبح مستودع المقامات الموسيقية العربية فى أنقى صورها، سوف لا يكون كذلك فى المستقبل لو فكر بعض المغامرين فى المساس بصرحه الفنى التليد».
■ ■ ■
يمنحنا كمال النجمى تفسيرا لماذا أخفق كل من حاول أن يلحن القرآن.
يقول: «هذه الحقيقة تفسر لنا الإخفاق الذى أصاب فى الزمن الأخير محاولات تلحين القرآن، ومن بينها محاولات للشيخ زكريا أحمد الملحن المشهور الذى كان مقرئا قبل أن يتفرغ للغناء ثم التلحين، ومحاولات محمد عبدالوهاب سار فيها شوطا خاطفا ثم عدل عنها، ولقيت محاولات بعض المطربين والمطربات فى التغنى بالقرآن الكريم ما لقيته محاولات التلحين، فلم تتغن أم كلثوم وهى سيدة الغناء إلا ببضع آيات فقط، ثم فطنت إلى أن التغنى مجال يتخصص له أصحابه.
ولكن ذلك لا ينفى، كما يقول النجمى، أن الرعيل الأول من مطربى بداية القرن العشرين إلى أربعيناته حاولوا التغنى كما حاولوا الغناء، والقاعدة الذهبية فى هذا المجال هى أن القارئ إذا أتيحت له بعد موهبة الصوت والأداء، دراسة منظمة لعلوم الغناء والموسيقى، أصبح قارئا مكتمل الأداة ما دامت معرفته بأصول القراءة معرفة صحيحة».
■ ■ ■
يعود كمال النجمى إلى الشيخ محمد رفعت، يتعامل معه على أنه أعظم المحسنين فى التغنى، فقد كان ولا يزال إمام القراء ومعلم الأجيال، كما كان فذا فى النغم والمقامات الموسيقية.
كان صوت الشيخ محمد رفعت أقرب إلى الخفوت، ولكن نبراته كانت ساطعة الوضوح، فكانت ولو بدون ميكروفون أدخل فى السمع والقلب من الأصوات المدربة والأصوات ذات الأحجام الكبيرة.
كان الميكروفون يزيد نبرات الشيخ رفعت الواضحة وضوحا، لكنه لم يكن يزيفها أو يقدر على تزييفها، لأن صوته رغم حجمه الذى يبدو ضيقا أو صغيرا، كان صوتا عجيب التكوين، تنطلق من خفوته درجات موسيقية تذهل السامع بعرامتها وكثرتها واتساع المساحة التى تغطيها صعودا وهبوطا.
تضمن صوت الشيخ رفعت ثمانى عشرة درجة موسيقية، أو ثمانية عشر مقاما بتعبير آخر، ممتدا على أطراف واسعة من الأقسام الثلاثة المعروفة عند الموسيقى تقسيم الأصوات الرجالية، وكانت هذه المساحة الصوتية المشحونة بالطاقات الفنية، تنكمش فى تلك النبرات الخافتة، وتنطوى فى ذلك الحجم الدقيق، كما تنطوى طاقات الطبيعة الكبرى فى أصغر ذرات المادة، ولكن هذه الموهبة الصوتية لم تكن هى وحدها صانعة الشيخ رفعت القارئ العظيم، فالحقيقة أنه كان إنسانا مخصوصا بقراءة القرآن، كأنما جاء إلى الدنيا ليتلوه على الناس تذكيرا وتبشيرا، فإذا أدى رسالته لم يبق له من غرض فى الدنيا إلا أن يقول لها سلاما، ثم يمضى.
بجوار قامة الشيخ محمد رفعت تظهر قامات أخرى.
القامة الأولى للشيخ عبدالفتاح الشعشاعى.
يصف النجمى صوته بأنه كان صوتا جزلا فحلا، ولكنه لم يخل من رقة وطلاوة، وحلاوة جواب، فضلا عن حلاوة القرار التى كانت بارزة فيه، وكان صوته أكبر من فنه، لكن فنه كان يبلغ منتهاه حين يلتقى الجماهير ويتغنى فى المسجد، فمن أراد أن يعرف فن هذا القارئ الكبير، فلا يطلبه فى التسجيلات الإذاعية العادية، وليطلب فنه الحقيقى فى التسجيلات المنقولة من المساجد والاجتماعات الجماهيرية.
أما الشيخ العظيم صديق المنشاوى فكان أعظم القراء فى صعيد مصر منذ العشرينيات إلى الستينيات، لم يتح له أن يقرأ فى الإذاعة، وإنما قرأ فيها نجله المرحوم محمد صديق، وقد شهد كل سامعى المنشاوى الكبير بإجادته وتفوقه وتفننه إلى حد الابتكار والاستقلال التام فى الأداء والتغنى عن القراء المشاهير فى القاهرة.
هل وصلنا إلى محطة الشيخ مصطفى إسماعيل؟
يقول عنه النجمى: «يثير بطريقته فى القراءة بعض التعليقات الطفيفة، يقال مثلا إن الشيخ مصطفى جميل الصوت فائق الفن، ولكن الأصول الدقيقة تقتضى إبانة الحروف وتمييز بعضها من بعض، وإظهار التشديدات، وإتمام الحركات، وتفخيم الحروف الفخمة وترقيق الحروف الرقيقة، وقصر المقصور ومد المدود، والوقوف حيث يجب الوقوف، لا حيث يطيب للقارئ أن يقف، لأن صحة التلاوة تأتى قبل صحة النغم».
ويقال أيضا إن الشيخ مصطفى إسماعيل ذو صوت وفن يسحران السامع عن نفسه.
فهل يضر القارئ إذا اجتمع له الصوت الحسن والتغنى البارع؟
أيكون هذا القارئ عندئذ أقرب إلى النقص أم أقرب إلى الكمال؟
وهل يخرج وقتها عن قول الرسول الكريم «أيما حرف قرئ عليه فقد أصابوا»؟
هذا السؤال الذى طرحه النجمى يعتبر سؤالا مهما جدا، وهو أحد الأسئلة التى أجاب عنها الزمن.
فللفن فى الإنسان امتداد عميق منذ بداية حياة النوع الإنسانى فوق هذه الأرض، وكما قال الإمام الغزالى: «من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية».
ويحاول المتدينون المخلصون فى هذه الأخريات من القرن العشرين أن يزدادوا قربا من الجموع البشرية الهائلة التى بهرها التطور والتقدم واتساع حاجات النفس والبدن ووفرة ما تلبيه الحضارة من هذه الحاجات.
■ ■ ■
هل ندخل إلى مساحة جديدة فى الحديث عن اقتران الغناء بالقرآن؟
ولمَ لا؟
يقول النجمى: «كان غناء رجل الدين المسيحى قديما فى القداس الكنسى لا تصاحبه آلات موسيقية، ثم دخلت الآلات رحاب الكنيسة، وأفضى الأمر أخيرا إلى دخول أحدث صيحات الموسيقى اجتذابا للشباب، وفى الكنائس الأوروبية والأمريكية غناء دينى راق مؤلف على غرار المؤلفات الموسيقية الكبيرة القائمة على الهارمونى إلى جانب الغناء البسيط القديم الذى جمعه ورتبه البابا جريجوريس قبل مئات السنين، وجعله غناء دينيا معترفا به.
الأديان الأخرى مثل البوذية واليهودية وغيرهما تنسج على هذا المنوال أيضا، وربما سمع من يؤم معابدهم موسيقى الجاز أو ألوانا أخرى متنوعة من الموسيقى الحديثة ترتفع نغماتها العنيفة مصحوبة بالرقص ومرح الشباب».
يعترف النجمى بذلك، لكنه يتدارك الأمر فيقول: «لا يخطر بالبال أن نسير نحن على هذا النهج، فلكل امرئ حدود دينه ودنياه، لكن لا يخطر بالبال كذلك أن ينقرض التغنى أو يقف عن التطور والتوسع والتزود من مقامات الموسيقى العربية، أو علوم الموسيقى العربية، بتعبير أكثر شمولا، وسوف يبقى التغنى بعد ذلك فى الحدود التى تصون لمفردات الكلام أوضاعها الصحيحة، إلى ما هو متفق عليه من أصول القراءة منذ الزمان الأول».
■ ■ ■
إلى أى شىء يخلص كمال النجمى من هذه الدراسة العميقة.
يقول: «كثير من حسنى النية يضيقون بالتغنى ويقولون: تكفى التلاوة، وهم لا يعلمون أنهم يظاهرون بقولهم هذا جماعة الكارهين للموسيقى العربية الذين يقولون بدورهم: لماذا الموسيقى العربية؟ تكفى الموسيقى الأوروبية؟.
ومن حسن الحظ أن التغنى بالقرآن ماض فى طريقه تطورا واتساعا وتأثيرا فى الجماهير، ونسمع الآن المصحف المرتل، ومن آثاره الكريمة حفظ اللفظ القرآنى الصحيح وحفظ اللسان العربى.
أما التغنى فهو الذخيرة التى لا تنفد للموسيقى العربية، وينبغى ألا نجزع من التقارب بين كلمتى: «التغنى» و«الموسيقى» على ألسنتنا، فإنما قاربت بينهما فى الحقيقة عوامل تاريخية واجتماعية عميقة حاسمة».
هل من ختام؟
يأتى الختام بهذه الكلمات: «حاول الاستعمار أن يقتلع لغتنا وموسيقانا معا من أرضنا، لأنه يعلم أنهما شىء واحد، والأمر بعد ذلك يتعلق برسالة الإسلام فى القرن العشرين وما يتلوه من قرون، فإن تمام النجاح لهذه الرسالة يكمن فى تطوير وسائلها تطويرا شاملا، لا افتتاناً بالوسائل التى اتبعها الآخرون على مقتضى حاجتهم وظروفهم التى تختلف عن حاجتنا وظروفنا، وفيما يخص التغنى فإن كل الدلائل تبشر بأننا سائرون فى الاتجاه الصحيح، وحسبك أن ترى قراء مصر منبثين فى البلاد العربية والإسلامية، لتقول: نعم.. هكذا فليلتقوا مع الناس.. فمن لم يتغن به فليس منا».
■ ■ ■
هل تريدون شيئا بعد هذه الدراسة الشاملة؟
أعتقد أن القضية واضحة، فالتطور هو الذى سيحسم الأمر كله، لا يستطيع أحد أن يفرض شيئا، ولا يستطيع أحد أن يمنع شيئا.. تنحسر الموجة أحيانا، وينتابها المد أحيانا، تخف السطوة أحيانا وتزيد أحيانا، فى النهاية القرآن موجود، والتغنى به لن ينتهى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.