من المهم جدًا أن نتعرف على الخلفيات الاجتماعية لقيادات الجماعات الجهادية، إن مناقشة الحياة الخاصة وخلفياتها لهم تفتح لنا طاقات مظلمة، لأن الناس لا يولدون إرهابيين.. فحياتهم أشبه بمزارع يحضر الحقل للزرع، فإما يخرج نباتًا طيبًا، وإما يخرج نكدا. الكاتبة الأمريكية، جين ساسون، قدمت لنا خدمة جليلة، حينما طرحت الجانب الخفىّ فى حياة قائد ومؤسس تنظيم القاعدة، فى كتابها إنه بن لادن وعلاقاته بزوجاته، وأبنائه، وحياته الخاصة، ورسائله، بعد حوارها مع ابنه عمر، وزوجته الأولى نجوى غانم التى، وفق قولها، لا تعرف إلا الرجل، أما الغرب فهو لا يعرف سوى الإرهابى. نجوى غانم هى ابنة عمة أسامة، سورية، ربطته بها علاقة عشق فى شبابهما، وتزوجها وعمرها 14 عامًا، بينما كان عمره هو 17 عامًا، وكان ساعتها ما زال يكمل دراسته ويتلقى تعليمه العالى الإنجليزى، ويعمل أثناء دراسته فى التشييد بشركة والده، لأنه، وفق قولها، كان محبًا وبشغف لحفر الأنفاق، وبقيادة السيارات الكبيرة، وقيادتها فى الصحراء. كان يقول لها فى إحدى رسائله: أنت لى درّة ثمينة تجب حمايتها، وسأكون الصدفة الصلبة التى تحميك، تمامًا كما تحمى صدفة البحر الصلبة الدرّة النقيّة. كان ل«بن لادن» 55 أخًا وأختًا، لكن لم يكن لديه «واحدة» من أخواته البنات مقربة منه، بل اكتفى فى حياته بزوجاته وبناته التسع. فى البداية تزوج نجوى، وكانت حياتهما رائعة بمدينة جدة، وحين أنجبت له ابنه الأول عبدالله زاد ارتباطهما، وبعد 4 من الأولاد، بدأت تظهر عليه تحولات اجتماعية، والبداية حين أخبرها أنه يريد التزوج من ثانية ليطبق سنة النبى فى التعدد، وأنها لو لم توافق فإنه لن يجبرها على ذلك، لكنها كعادة المجتمع السعودى وافقت، لأنها محظوظة لأنه خيرها، فتزوج من خديجة، ثم من خيرية، ثم من أخرى تسمى سهام، وأنجب منهن جميعًا، وتحول بعدها للتقشف، وانتقل هو وعائلته إلا فيلّا بالمدينة، إلا أن أولاده فوجئوا أنها خالية من الأثاث، وساعتها قال لهم: لن أنفق أموالًا على أثاث منزلى فانٍ!!. لقد بدأ انفصال بن لادن عن الأشياء، وتصور أن المخترعات الحديثة كلها هى من الحياة الدنيا، فقد كان يكره أوروبا وأمريكا وما يخرج منها، حتى أن أحد أولاده أصيب بالربو، وكان يحتاج لدواء الفانتولين، إلا أنه طلب منه التحامل والتعود على عدم أخذ الدواء. كان بن لادن لا يزال حتى هذه اللحظة عاشقًا للعبة كرة القدم، ورغم أنه كان لا يفضل البقاء فى المنزل كثيرًا، ولا يذكر «عمر» أن والده جلس مع أولاده واحتضنهم، إلا أنهم فى مرة فوجئوا به وقد أحضر لهم كرة، وساعتها لعب معهم، ووقع ساعتها على الأرض، وأصيب فى كتفه، واحتاج للعلاج لمدة 6 أشهر. كان يضرب أولاده بالعصا، وكانت زوجاته يعاملنه باحترام شديد جدًا، وكان لا يجرؤ أن يضحك أحد أمامه لا أولاده ولا حريمه، إلا أنه فى مرة كان ذاهبًا للصلاة، وفى الحر الشديد كان عمر وراءه فلم يتحمل ذلك، فاحتضنه وحمله حتى أوصله للمسجد، وتقريبًا كانت هى المرة الأولى والأخيرة التى فعل فيها ذلك معه. إن عمر يذكر أنه سأل والده أسامة، لما كانا صاعدين لأحد الجبال بأفغانستان وقال له: «لو سقطت فماذا ستفعل يا أبت؟»، فأجابه بابتسامته المعهودة: «أدفنك يا ولدى». فاطمة هى الابنة الأولى له، وهى ابنته من «نجوى» التى ولدت عام 1987، وتزوجت «فاطمة» بمحمد - مقاتل سعودي - عام 1999 عندما كانت فى الثانية عشرة من عمرها، وتقول نجوى إن «بن لادن» كان يتّبع الشرع فى تزويج بناته، وكان يخيرهن ويسألهن عن موافقتهن عن زوج المستقبل. أنجبت «نجوى» له «إيمان ورقية ونور»، وأنجبت سهام «خديجة ومريم وسمية»، كما أنجب من خديجة «عائشة» التى سافرت مع والدتها إلى السودان، ثم إلى سعودية، ولم تر والدها منذ ذلك الحين، أى منذ عام 1992. تعتبر «صفية» ابنة «أمل» هى أشهر بناته، حيث كانت الطفلة ذات الاثنى عشر عامًا شاهد عيان على مقتل والدها. قرر بن لادن الذهاب لأفغانستان، وهناك التقى بعبدالله عزام، واتفقا معًا على إقامة بيوت الأنصار فى بيشاور، كما التقى أبوعبيدة البنشيرى، والظواهرى، وسيد إمام، الذين أثروا عليه كثيرًا. فى أفغانستان كان القادة الأفغان والعرب يعاملونه بإجلال واسع، حتى أن «عمر» يقول عن والده: إننى رأيت الظواهرى أكثر من مرة، وكان إذا أراد الكلام فى حضرة والدى يقول له، هل يمكننى أن أتكلم؟ اشتكى أولاده لأمهم نجوى، إنهم لا يجلسون مع والدهم مطلقًا، وإنه لا يهتم بشئونهم، ويترك ذلك لمن يعملون عنده، وساعتها أخبرته، فجمعهم، وقال لهم: إننى لم أر جدكم سوى خمس مرات فقط، وأنا منشغل بشئون العالم فى ذهنى. كان لديه ابن متوحد، وهو عبدالرحمن، وكان ينظر إليه بأسى كبير، وفى أحد الاجتماعات مع قادة القاعدة، أخاف أحد أولاده عبدالرحمن بالكلاب، فجرى، وسقط من سطح الحجرة المبنى بالخوص والأشجار، فنظر لابنه فى صمت، ولما علم أنه لم يصب، قال ل«عمر» بقسوة: اجمع كلابك من هنا وإلا قتلتهم عقب اجتماعى. يذكر فى مرة أخرى أنه جمعهم، وقال لهم: إن هناك ورقة معلقة فى المسجد تطلب انتحاريين، فمن منكم سيذهب ليضحى بنفسه فى سبيل الله، وساعتها ذهب حمزة وكان صغيرًا، وهو الآن الرجل الثانى فى التنظيم. انتهت الحرب، وعاد بن لادن إلى المملكة، لكنهم فتشوا عليه، وعلى بعض أتباعه، فخشى من ذلك وقرر العودة لأفغانستان ومنها ذهب للسودان، وهناك اصطحب نجوى وباقى أولاده، وضغط كلينتون لتسليمه، ففر مرة أخرى لأفغانستان، وأثناء هذه الفترة تم تفجير السفارتين فى تنزانيا وكينيا، والمدمرة كول باليمن. يذكر «عمر» أن أمراء سعوديين جاءوا لوالده لإقناعه بالعودة وتولى أعلى المناصب، إلا أنه رفض ذلك تمامًا، وقرر العيش فى مغارات جبال الهندكوش، وجبال تورا بورا. لا تعرف نجوى فى الجبال كيف تذهب للخلاء، لكن الحياة أجبرتها على أشياء لم تخطر على بالها، وأجبرت أولادها على أكل البيض المخفوق طوال أيام الأسبوع. المرة الوحيدة التى جاء فيها الملا عمر إلى منزل بن لادن، كانت عقب تدمير السفارتين، يروى عمر القصة ليحكى عن حنكة والده وذكائه: فوجئنا بأكثر من 10 سيارات كروزر، نزل من واحدة منها الملا عمر، وكان يشبه والدى كثيرًا، فقد كان فارع الطول، وفى وجهه وعينه إصابات، وهذا فخر بأفغانستان لأنه أصيب فى الحرب.. نزل متجهمًا، وأصر ألا يمد يده ويسلم على والدى، وقرر الجلوس على كرسى، وباقى الحضور يجلسون على الأرض ومنهم أبى، تكلم بالبشتونية رغم أنه يعرف اللغة العربية، وقال إن أفغانستان قدمت لكم الكثير، وعليك أن تمشى فورًا وتبحث عن ملاذ آخر أنت وأولادك، فقال له والدى الذى يجيد البشتونية، إن السودان أعطتهم مهلة سنوات، ألا تعطينا بكرمك مهلة عامًا ونصف للبحث عن مأوى، فرفض الملا عمر، فلعب والدى على عاطفته الدينية، وقال له، إنك لو سلمتنى فإنك بذلك اتبعت الغرب الكافر، وسلمت لهم مسلمًا، وساعتها سكت الملا عمر، ووافق على بقائه عامًا ونصف فقط، وساعتها أحضرنا طعامًا من اللحوم، ولم نكن نرها منذ فترة طويلة، لكن الملا رفض، وقال أنا لست جوعانًا، ففرحنا جدًا وأكلناها نحن. قرر هو وأولاده أن يزرعوا مساحة كبيرة بين الجبال، ومما يخرج من الأرض يعيشون منه، كما أحضر لهم بن لادن خيولًا عربية، وقال لهم: إن زوج أمى محمد، وأنا طفل كنت أريد (ماعز) فقال لى ازرعه، قلت له كيف، قال خذ عظمًا من لحمه الذى نأكله وضعه فى الأرض، وبعد أسابيع سيخرج ماعز صغير مثله، لكننى لم أجد شيئًا ولما سألته قال كنت أضحك معك، لذا فإننى أحرص أن أحضر لكم حيوانات ولن أفعل معكم كما فُعل معى. أصر بن لادن على تعليم أولاده حتى وهم فى الجبال، فكان أتباعه يدرسون لهم كل شيء، ولما تعبت نجوى فى حملها الأخير، حاول عمر أن يقنعه بأن يتركها تذهب لسوريا، رفض فى البداية، ولما علم بمرضها الشديد، وافق، لكنه رفض أن يتركها تأخذ أصغر أبنائها «لادن» معها، وكان عمره 5 أعوام، لأنه يعلم أنها ستعود بسببه، وقال لها: لن أطلقك أبدًا يا نجوى، ولو سمعت أننى طلقتك فلا تصدقين. ابنه الأكبر عبدالله عاد للمملكة فتزوج وقرر عدم العودة لأفغانستان، أما عمر فقد أرسله والده للسودان للبحث عن زوجة، وهناك رأى أن كل ممتلكات والده أخذتها الحكومة السودانية، وقدمتها كهدايا لأعضاء فى الحكومة!!. لعل هناك الكثير فى حياة بن لادن، إلا أن الكتاب كان موفقًا جدًا لفهم البعد النفسى لشخصية بن لادن، والتى بطريقة ما أثرت على منهج تنظيم القاعدة، إلا أنه على كل حال كان إنسانًا مر بمتغيرات من حوله، حولته من رجل إلى إرهابى، وهذا تقريبًا هو حال جميع تلك العناصر، وليس زعيم القاعدة وحده.