يقول الحبيب على الجفرى فى كتابه «الإنسانية قبل التدين»: يحدث ذلك على الرغم من أن النبى حذر منها فيما رواه البخارى ومسلم: «أيما رجل قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما»، وزاد مسلم فى رواية أخري: «إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه». ومنهم من زاد على ذلك بأن جعل من لوازمها القتال والتعدى، وكأن الدين يقوم على الإكراه أو أن مجرد الكفر يبيح الدم والعرض والمال، وهذا باطل ومخالف لقوله تعالي: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»، وقد أخطأ من قال بأن الآية منسوخة لأنها نزلت فى المدينةالمنورة بعد الإذن بقتال الكفار المعتدين. وفريق آخر فرط ورفض الاعتراف بهذه الكلمة على الرغم من كونها ثابتة فى القرآن، ولعله يعيش حالة ردة فعل تجاه الفريق الأول مع عدم تمييزه بين الكفر وتبرير القتال. فعلى سبيل المثال المجتمع المصرى، يتعامل معها على أنها سبة يشتم بها من اشتد جحوده وظلمه، ولهذا تجد فى اللهجة المصرية عبارات مثل: «دول عالم كَفرة»، أو «يا كفرة»، أو «أنت هتخلينى أكفر» وطبعًا السلامة تقتضى تجنبها. والدلالة العرفية لها اعتبار فى الشرع يدعو إلى الانتباه لحساسيتها، ولذلك قَبِل سيدنا عمر من قبيلة «تَغلب» طلبهم حين اشترطوا عليه تسمية الجزية بالصدقة، لأن دلالة الجزية حملت عندهم معنى الإهانة لمكانتهم بين قبائل العرب. وأما الدلالة الشرعية فهى على خمسة أقسام: كافر دون كفر يطلق للتغليظ ومرتكبه لا يخرج عن الإسلام، ولكنه يرتكب نوعًا من الجحود فى المعاملة ومثاله قول النبي: «اثنتان فى الناس هما بهم كفر، الطعن فى النسب، والنياحة على الميت»، فاتهام الناس بأنسابها والنياحة على الميت من المعاصى المتعلقة بالجحود، ولكنها ليست مخرجة من الإسلام، ومرتكبها مسلم مذنب. كافر منافق يتظاهر بالإسلام ويُبطن الكفر، وحكمه فى الدنيا حكم المسلم، لأن ما فى القلوب غيب والأحكام الشرعية فى الدنيا تطبق على الظاهر والأصل فى التعامل فيها مع الإنسان، على أساس حسن الظن وافتراض الصدق فيه ما لم يثبت خلاف ذلك، وقد كان المنافقون يصلون خلف النبى، وهو يعرفهم فلا يمنعهم، لأن التفتيش عن النوايا ليس من مهماتنا. كافر بجهالة حال أكثر أهل الأرض الذين لم يصلهم الإسلام على نحو واضح يقنع العقل ويطمئن له القلب من التشويش، وحكمه فى الدنيا أنه كافر بمعنى أنه لا تطبق عليه أحكام المسلم فى النكاح والميراث والصلاة عليه عند موته، ولا يُخاطب بالالتزام بالأحكام الشرعية، أما فى الآخرة: فالذى يظهر أنه يدخل فى حكم أهل الفترة الذى يتبين من قول الله عز وجل: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»، وهذا واضح الانسجام مع العدالة الإلهية والرحمة الربانية. كافر معاند وهو من بلغته الرسالة دون تشويش قولى أو عملى يحجب عنه وضوح صدقها، ومع ذلك أصر على الكفر بها وإنكارها جحودًا على الرغم مما استقر فى عقله وقلبه من الاقتناع بصحتها والتصديق بها كما فى قوله: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا». وهذا يضاف فى حقه إلى الحكم الدنيوى السابق الحكم الأخروى بأنه من أهل النار إن مات على حالته تلك كما أخبر القرآن: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». وجميع هذه الأنواع لا يجوز الاعتداء عليهم ولا قتالهم بسبب كفرهم ولا إرغامهم على الإسلام، لأن الدين لا يكون بالإكراه وإنما بالاختيار، فالإيمان قناعة عقلية واعتقاد قلبي. «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ» «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ»، «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ»، «مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ»، «وَمَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ». «كافر حربى» هو الذى يجمع مع صفة الكفر صفة الاعتداء بالقتال، إما بمباشرته أو بالتحريض الحقيقى عليه أو بالتخطيط الثابت له، أو بمنع الناس حقهم فى اختيار الإيمان والإصرار على إجبارهم على الكفر. لذلك فإن الحكم على إنسان بالكفر لا يجوز إلا فى ثلاث حالات: أن يعلن كفره بنفسه، أن يرتكب فعلًا من صريح الكفر على نحو لا يقبل التأويل كمن يعتمد إهانة المصحف على نحو صريح بوضعه تحت القدم أو وضع نجاسة عليه، استحلال محرم مقطوع بتحريمه كمن يقتل نفسًا معصومة وهو مصر على أن قتلها مباح. حتى أن العلماء رفضوا الحكم على من يسجد لغير الله بالكفر أو الشرك حتى يُسأل عن نيته من السجود، فإذا قال إنه نوى عبادة المخلوق الذى سجد له فقد «أشرك» شركًا يخرجه من الملة، وإن قال إنما قصدت بذلك التحية والاحترام فقد ارتكب «إثمًا» لا يُخرجه من الملة، لأن سجود التحية والاحترام حرام فى شريعتنا، إلا أنه كان جائزًا كما فعل سيدنا يعقوب وزوجه وأولاده لابنه يوسف: «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا»، والشرائع لا تختلف فى العقائد، وإنما يكون اختلافها فى الأحكام «يجوز ولا يجوز».