"أصحي يا نايم وحد الدايم... قول نويت بكرة إن حييت...الشهر صايم والفجر قايم ورمضان كريم"، أقوال يتفوه بها المسحراتي للإيقاظ الناس للتوجه للسحور قبل أن يأتي آذان الفجر لينبه الناس عن موعد الأمساك عن الطعام لمواصلة صيام شهر رمضان الكريم. ترتبط مهنة المسحراتي بعقل ووجدان كل المسلمين صغارا وكبارا، وخاصة في شهر رمضان الكريم، فهي تلك الشخصية التي يعتمدون عليها لإيقاظهم وقت السحور، عرفت مهنة المسحراتي في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان بلال بن رباح هو أول مسحراتي في الإسلام يمر على بيوت المسلمين طوال الشهر العظيم ويشدو بصوته الجميل بأجمل الكلمات لإيقاظ المتسحرين، وكان المتسحرون يمتنعون عن الطعام عند سماع اذان عبد الله بن مكتوم، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن بلال يؤذن باليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. واعتمد الناس في مكة على الزمزمي الذي كان يقف فوق المسجد وينادى ويستعين كذلك بطرف حبل في يده يتدلى منة قنديلان كبيران حتى يرى نور القنديلين من لا يستطيع سماع ندائه من فوق المسجد. وتطورت مهنة المسحراتى واختلفت مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية والحاجة إلى تنبيه المسلمين إلى وقت السحور، وفي عهد ابن طولون امتهنت المرأة التسحير، وكان يشترط أن يكون صوتها جميلا، وأن تكون معروفة لسكان الحي وتقف وراء النافذة وتنادى، كما أن كل امرأة مستيقظة كانت تنادي على جاراتها في عهد الدولة العباسية: أثناء حكم المنتصر بالله تطوع عتبة بن اسحاق والى مصر عام 238 ه لتنبيه الناس إلى وقت السحور فكان يطوف بنفسه شوارع القاهرة سيرا على الاقدام من مدينة العسكر إلى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط مناديا الناس "عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة" اما في بغداد أثناء حكم نفس الخليفة ابتكر أهلها فن القومة الغنائي الخاص بسحور رمضان، وقد أطلق عليه هذا الاسم، لأنه شعر شعبي له وزنان مختلفان، ولا يلتزم فيه باللغة العربية، فكان المسحراتى ينادى: ' يا نياما قوموا.. قوموا للسحور قوموا'، ويدق على ابواب البيوت بعصا معه. كان "ابن نقطة" أشهر من عملوا بالتسحير، حيث كان موكلا إليه إيقاظ الخليفة الناصر لدين الله العباسي. وفي عهد الدولة الفاطمية: كان الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي يأمر جنوده بالمرور على بيوت الناس بعد صلاة التراويح ليدقوا على ابواب النائمين لتنبههم للسحور، وتدريجيا خصص رجلا للقيام بهذه المهمة وخصص له راتبا معينا من الدولة فأقبل الناس على امتهانها على الرغم من اقتصارها على الشهر الكريم فقط، وكان يطوف مناديا: يا أهل الله قوموا تسحروا. وفى العصر المملوكي كادت مهنة المسحراتي أن تختفى تماما لولا أن الظاهر بيبرس أعادها وعين أناسًا مخصوصين من العامة وصغار علماء الدين للقيام بها. تطور المهنة ظهرت بعد ذلك الطبلة على يد أهل مصر كنوع من التطوير بالمهنة، وكانت الطبلة الصغيرة التي يحملها في يده اليسرى تسمى بازة، ويدق عليها بسير من الجلد أو خشبة ويظل يطوف على سكان الحي أو الشارع ذاكرا مناقبهم ووظائفهم وأسماء أولادهم ويضفى المبالغة والمجاملة حتى يحصل على مكافئة سخية في أول أيام عيد الفطر يملأ بها جيبه بالنقود وسلته بالكعك، وحتى يستطيع المسحراتى حفظ اسماء اهل الحى -إلا أسماء النساء- وصفاتهم لينادي بها يجب أن يبدأ في التعرف على اهل الحى قبل رمضان بأسابيع أو شهور، ويقسم المسحراتية المناطق فيما بينهم بحيث يتولى كل واحد منهم قسم أو عدد من الشوارع يكون هو المسئول عن إيقاظ سكانه. تطورت الأمور بعد ذلك فاستعان المسحراتى بطبلة كبيرة، ثم إلى عدة أشخاص معهم طبل بلدي وصاجات يصحبون المسحراتي، ويغنون أغاني خفيفة ويشارك المسحراتي الشعراء في تأليف الأغاني التي ينادون بها كل ليلة. شغف الرحالة والمستشرقون بهذه المهنة وكتبوا عنها في كتبهم مثل: الرحالة المغربي "ابن الحاج" الذي جاء إلى مصر في العصر المملوكي في عهد الناصر محمد بن قلاوون تحدث عن عادات المصريين وجمعها في كتاب والمستشرق الإنجليزي "إدوارد لين حي لنا عن المسحراتى في كتابه المصريون المحدثون..شمائلهم وعاداتهم، فيقول:يبدأ المسحراتي جولاته عادة بعد منتصف الليل ممسكا بشماله بطبلة صغيرة وبيمينه عصا صغيرة أو قطعة من جلد غليظ، وبصحبته غلام صغير يحمل مصباحا أو قنديلا يضيء له الطريق، ويأخذ المسحراتي في الضرب على الطبلة ثلاثا ثم ينشد، يسمى فيه صاحب البيت وأفراد أسرته فردا.. فردا – ماعدا النساء- إذا كان بالمنزل فتاة صغيرة لم تتزوج فيقول أسعد الله لياليك يا ست العرايس ويردد أيضا أثناء تجواله على إيقاع الطبلة كثيرا من القصص والمعجزات والبطولات عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو زيد الهلالي وغيره، ويسعد الناس كثيرا بسماع صوت هزه الشخصية المحبوبة وعلى الأخص الأطفال وعادة ما يتوارث الأبناء هذه المهنة عن آبائهم. ويختلف المسحراتى من مكان لاخر فمثلا مسحراتى الاحياء الشعبية تجده يحفظ أسماء كل أبناء الحي..والنداء باسم الأطفال يفرحهم جدا، فينتظروه كل ليله ليسمعوا صوته ويطلبون منه أن ينادى أسماءهم، فيقول":يا عباد الله وحدوا الله، سحورك يا صايم وحد الدايم..يا عباد الله وحدوا الله...قوم ياحمادة وأنت يا وليد...سحورك ليوم جديد..بالله يا هدى أنت ورشا...اصحى ياتامر..السحور ياولاد". أما مسحراتي الأحياء الراقية، حيث فيسير وهو يحمل ميكروفونا صغيرا يكتفي فيه بترديد أسماء الأطفال. وفى مجتمع القرية نجد أن المسحراتى كان يحمل على عاتقه التنبيه بالافطار والسحور، فنجده كان يعتمد على ساعته الجيب ودفترا صغيرا لتقويم الوقت فلكيا يسمى "تقويم البازيدي" والذي يحتفظ به العديد من أهل القرى، ففيه مواعيد الزراعة ومقاومة الدودة والآفات وبه نصائح زراعية وطبية ووصفات بلدية عديدة للشفاء من أمراض كثيرة، وفوق ذلك تقويم الشهور بأنواعها..القبطية والفرعونية والعربية والإفرنجية ومواقيت الصلاة ومواعيد السحور وهكذا. وقبل حلول موعد آذان المغرب بربع ساعة يصعد إلى سطح المنزل يراقب صعود مؤذن المسجد وما أن يصيح مِؤذن المسجد قائلا الله أكبر...الله أكبر، يضرب على الطبلة عدة ضربات قوية، فيسعى الأطفال والشباب إلى بيوتهم لتنبيه الأهل بآذان المغرب، اما في التنبيه للسحور فهو لا يكون وحده أبدا وانما يكون بصحبة عدة شباب معه يمسك أحدهم بالفانوس والى جوارهما شاب آخر يمسك بعصا لابعاد الحيوانات الضالة في الشارع إذا ما وجدت في ذلك الوقت المتأخر من الليل، ونجده يقول "يا عباد الله...وحدوا الله..اصحي يانايم..وحد الدايم..ياللا يابوسيد يازين الملاح...لا الشمس تطلع في كل صباح....قوم يا حسان اتسحر قبل الأوان...وأنت يابو صفاة...الحق نفسك قبل ما يدن حي على الصلاة..صلوا بينا عا النبي كل ساعة...زين الشفاعة يا مؤمنين". وعندما يحل العيد يطوف في الشوارع وخلفه الأطفال في موكب كبير مليء بالبهجة، تصحبه زوجته حاملة سلة كبيرة فيخرج الأهالي إليه بأطباق الكعك والبسكويت وقليل من المال ولا ينسى أن يقول لكل من يخرج إليه "كل سنة وانتم طيبون، ومهنة المسحراتي سواء في القرية أو المدينة يرثها الأبناء من الآباء أو الأجداد، وقد يكون ممن يملكون كشكا لبيع السجائر والحلوى أو موظفا في إحدى الجهات الحكومية أو بقالا أو نجارا أو يمتهن أي حرفة أخرى. واختلفت كذلك أجرة المسحراتى على مر العقود ففي منتصف ق19 كانت الأجرة مرتبطة بالطبقة التي ينتمى إليها المتسحر، فمثلا كان الشخص متوسط الطبقة عادة ما يعطى المسحر قرشين أو ثلاثة قروش أو أربعة في العيد الصغير. ويعطيه البعض الآخر مبلغًا زهيدًا كل ليلة. وكثيرًا ما يعمد نساء الطبقة المتوسطة إلى وضع نقد صغير (خمسة فضة، أو من خمسة فضة إلى قرش، أو أكثر) في ورقة، ويقذفن بها من النافذة إلى المسحر، بعد أن يشعلن الورقة ليرى المسحراتى مكان سقوطها. فيقرأ الفاتحة بناء على طلبهن أحيانًا، أو من تلقاء نفسه، ويدعو ببعض الادعية،ويروى لهن قصة قصيرة، للتسلية، مثل قصة "الضرتين"، وهى مشاجرة امرأتين متزوجتين رجلًا واحدًا. وكان المسحراتى لا يتوقف عادة عند منازل الأسر الفقيرة وفى الريف المصرى إبان القرن الماضى، و لم يكن له أجر معلوم أو ثابت، غير ما يأخذه صباح يوم العيد، وعادة ما كان حبوبا، فيأخذ قدحًا أو نصف كيلة من الحبوب سواء ذرة أو قمح ومع معرفة الكهرباء واستخدامها اختفى المسحراتى من حياتنا.