تحولت شخصية «محجوب عبدالدايم» التى أبدعها أديب نوبل الروائى الكبير «نجيب محفوظ» فى روايته القاهرة 30 إلى أيقونة شاهدة على الجبن والخسة والدناءة فى الرواية العربية. وربما لا وعى الكاتب المغربى «ياسين عدنان» كان قد اختزن ملامح تلك الشخصية فجاء بطل «رحال العوينة» قريب الشبه من محجوب عبدالدايم، فى أولى تجاربه الروائية «هوت ماروك»، بعد إبحار فى المجال الإعلامى الثقافى، وأجناس الأدب من شعر وقصة. عبر 600 صفحة من القطع المتوسط والصادرة فى طبعتها المشرقية عن «دار العين» فى القاهرة، يبحر عدنان فى تشريح ورصد ملامح المجتمع المغربى السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى الفترة من منتصف السبعينيات، وحتى أواسط الألفية الثانية. من خلال تتبع رحلة «رحال العوينة» يعرى الراوى آفات التنظيمات السياسية ومحاولات أدلجة خطابات يسارية ويمينية، وما طفح به الواقع الجامعى من فساد مستشر من أول تجنيد الطلاب من قبل الأمن لكتابة التقارير عن زملائهم، وانتهاء بفساد أساتذة الجامعة أنفسهم. فنرى «بوشعيب المخلوفى» أستاذ الأدب العربى بجامعة القاضى عياض، بدأ حياته كفقى يحفظ القرآن للصبية الصغار، وحينما اتجهت الدولة لإنشاء الجامعات، استعانت بمعلمى المدارس الثانوية فى التعليم الجامعي، شريطة أن يستأنفوا إجازاتهم خلال أربع سنوات، المخلوفى كعقلية نقلية محافظة، استعان هو الآخر بمجهودات الطلبة فى إنجاز رسالة الدكتوراه، وبدورهم سطوا على أبحاث بعض الباحثين المشرقيين لإتمام بحث المخلوفى. رحال العوينة نجل عبدالسلام الخانع القانع، يذعن لرغبة رحال فى الهجرة من الحمراء إلى مراكش، عبدالسلام المنهزم أمام رغبات الآخرين، فقد تزوج رغما عنه من «حليمة» التى تناثرت الأقاويل عن علاقتها بأخيه الأصغر «عياد» وبثت الشائعات عن نسب رحال لعمه عياد والذى ينتهى بزواج حليمة من عياد عقب وفاته. ورغم محاولات رحال فى إدخال البهجة على قلب أبيه، والتحاقه بالجامعة من أجل خاطره إلا أن عبدالسلام مات كمدًا، مات جسديا فقط بينما روحه كانت قد فارقته منذ زمن، الهزائم والخسارات التى حاقت به طوال عمره كانت قد أماتته، والفترة التى لازم فيها الموتى وسكنى القبور أزهقت علاقته بالأحياء، فنراه فى عقد قران ابنه رحال، يقرأ سورة «يس» مما أدخل البؤس والشؤم فى قلب حسنية القنفذة كما كان يسميها رحال. كانت حادثة «يس» كافية لينقلب العرس إلى شبه مأتم، العدلان أستاذنا فى الانصراف، وأم العيد التى انتبهت لتقلب مزاج وحيدتها بدأت فى إطفاء الأنوار وجمع المائدة. يجىء رحال العوينة فى مركز الحكاية بكل ما فيه من ضعف وجبن وتخاذل، قلبه يمتلئ بالحقد على الجميع، يصنفهم كحيوانات هو نفسه أشبه بجرذ، وإن كان قد اختار السنجاب قرينا حيوانيا له. ورغم أن السنجاب يمتلك ذاكرة مبهرة إلا أنها لم تسعفه، فى قسم التاريخ والجغرافيا ففشل فيه، وتحول إلى قسم الأدب العربى ليدرس على يد بوشعيب المخلوفى، ربما نتعاطف قليلا مع رحال ونلتمس له الأعذار خاصة أنه حرم من حنان العائلة البائسة التى تقلبت فى الفقر والحرمان. لكننا سندينه وهو يتحول إلى جاسوس بين زملائه فى الجامعة، ويصل به الأمر أن يتتبع مسيرة زميله «وفيق الدرعي» حاقدًا على ما وصل إليه من مكانه فى الوسط الثقافى المغربى كشاعر مرموق يشار إليه بالبنان، حقده تجاه «الدرعي» تجلى فى الكتابات البذيئة التى كان يخطها على جدار الحمام فى المدرسة، تلك العادة لازمته وتحولت من جدران الحمامات إلى التعليقات على المواقع الإلكترونية، وكان أكبرها وأهمها موقع «هوت ماروك». وحين يكتشف جماهيريته بين المتعطشين للسباب ونهش الأعراض والنيل من الآخرين، وكان أولهم «وفيق الدرعي»، يوغل فى عادته حتى يلتقطه الأمن «الأخ الأكبر» الذى يراقب الجميع طوال الوقت. تتحول عادة رحال إلى مهنة تدر عليه آلاف الدراهم شهريًا ووصلت لتكوين جيش من اللجان الإلكترونية تحت قيادة العميد العيادى والرفيق مختار اللذين كانا مندسين بين طلاب الجامعة، يتخذ من وظيفته فى سيبر «أشبال الأطلس» الفرصة ليتلصص على رواده، يتتبع إيميلات نجمة مراكش، والكابو الأفريكانو، وحتى «أسماء» عاملة المقهى حرمها من فرصة السفر لإيطاليا، وهو يكذب عليها بأن أحدا لم يستجب للبريد الإلكترونى الذى أرسلته. ويستغل «رحال» صورها فى حساب وهمى على الفيس بوك، للإيقاع بالسياسيين والمثقفين ونخبة المجتمع المغربي، حتى يصل لعماد القطيفة ويسبب له فضيحة مع زوجته هيام، فتطلب منه الطلاق فى أوج المعركة الانتخابية. كما فضحت «هوت ماروك» كواليس العالم السرى للصحافة وما يجرى فى بلاطها، والعلاقة المحرمة ما بين السياسة والصحافة والأحزاب، خاصة زعيمَيْ حزب الأخطبوط وحزب الناقة ومن يدور فى فلكهما من أحزاب التفريخ وفق سُنّة المخزن، سُنّة خداع الشعب وخلق التحالفات المصلحية، وصنع المفاخر السياسية الواهية، بالكذب والشعارات والخطب الجوفاء الغبية. والتى تنتهى بانتهاء فوز المرشح بالمنصب البرلمانى أو غيره، «حتى الأحزاب لا أحد يهتم لأسمائها أصلا ليدقق فى خلفياتها الفكرية أو الأيديولوجية، الكل ينادى الأحزاب برموزها. الأخطبوط والناقة والحصان والنملة والبلشون والمكنسة والطائرة والفأس والشمعدان واليد فى اليد وسماعة الطبيب، لم تخل الساحة السياسية والمعارك الحزبية من استغلال الدين واستقطاب الجماهير من خلاله وهو ما تجلى فى فتوى «الحلزون» والمعارك التى نشبت بين المؤيدين لأكله، وبين المحرمين له واستتابة من يتناوله وإلا وجب قتله. كما نجح ياسين عدنان فى استخلاص ملامح التشابه بين المدن والمجتمعات العربية، سواء المشرقية أو المغربية، وكيف ساعدت الهجرة والنزوح من الريف إلى المدينة فى تزييف المدن العربية. منها مثلا انتشار المحلات والمقاهى لتسد الشوارع وتخنق الأرصفة بعدما استولى عليها الباعة الجائلون، أو حتى ظواهر التحرش بالإناث على مرمى سمع وبصر الجميع، وتواطؤ أغلب الذكور مع المتحرشين للإيقاع بالفريسة، وكان «اليزيد» أكبر دلالة على الرجل الذى تلفظه امرأة فيتحول إلى عدولها يهينها بالسباب والضرب ولا ينجدها أحد. كما تطرقت الرواية إلى كيفية تجنيد العناصر الإرهابية عبر الفضاء الإلكتروني، فنجد عبدالمحجوب ديدى المعروف بأبو قتادة المنتمى لحزب العدل والإحسان، يتلقى بريد إلكترونى غريب بعنوان «فإن الذكرى تنفع المؤمنين» وأنه تم اختياره ضمن مجموعة من الصالحين للجهاد ورفع راية الإسلام، إلا أن تلك الرسائل تنقطع إلى أن يتحول أبوقتادة للهذيان ويودع مستشفى الأمراض العقلية. أما شخصية «نعيم مرزوق» الصحفى البارز وعلاقته برجال الأمن، تأتيه الأوامر ليترجمها فى مقالاته، وكيف يغير جلده من صحيفة لصحيفة، إلى أن يغدر به الأمن على خلفية الوقيعة التى دقها «ميمي» المخنث بينه وبينهم، إلا أنه يتحول إلى بطل قومى وشهيد لحرية الرأى والتعبير، بل تتلقف المحافل الدولية خبر القبض عليه للنيل من النظام ونعته بالقمع وتكميم أفواه الصحفيين وتقييد حرياتهم. المفارقة أن رجال الأمن أنفسهم نسقوا مع نعيم مرزوق تفاصيل القضية كاملة، حيث يوصيه المحقق «جواد»: «أنت لم تعد نعيم مرزوق كاتب الأعمدة المنزوى فى شقته بشارع أنفا، يدبج مقالاته اليومية، أنت اليوم مادة دسمة للصحافة الوطنية والدولية ولسجالات السياسيين خلال الحملة الانتخابية، فالكل منشغل بقضيتك، فى الداخل والخارج خصوصا فى الخارج، انف عنك كل التهم الموجهة إليك وقل بأن محاكمتك هى محاكمة لحرية التعبير فى المغرب، ثم ارفع شارة النصر أمام عدسة المصورين وأنهِ الحكاية».