رغم مرور عام على رحيله، لا تزال كلمات الألماني"جونتر جراس"، الحاصل على نوبل في الآداب عام 1999، مُستمرة في إثرائه الأدب العالمي، وجاءت من خلال الحياة القاسية التي عاشها، وجعلته أشهر أدباء بلاده في الخارج منذ النصف الثاني من القرن العشرين، رغم إثارته للجدل بمعارضته إسرائيل علنًا دون أن يخضع لابتزاز أو مُهادنة، دون أن يخش اتهامه بمُعاداة السامية. "لماذا أصمت، لقد صمتُ طويلًا عما هو واضح وماتمرست على محاكاته".. ولد جراس لأب بروتستانتي وأم كاثوليكية من أصول بولندية، في مدينة دانتسيج الحرة، والمعروفة حاليا ب"جدانسك"، في السادس عشر من أكتوبر عام 1927، وكانت المدينة وقتها تخضع لإدارة دولية ضمن أراضي بولندا، حسب اتفاقية فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى، وتم ضمها إلى بولندا بعد الحرب العالمية الثانية؛ وهناك تلقى الفتى دراسته الابتدائية والثانوية، وفي نوفمبر 1944 تطوع للعمل في سلاح الغواصات الألماني، ثم تم إلحاقه بوحدات قتالية أخرى خلال الحرب العالمية الثانيةو-كان قد أقر في عام 2006 بأنه خدم في منظمة "فافن إس إس" النازية- ووقع في أسر القوات الأمريكية، التي احتجزته في معسكر للأسرى، ثم أطلق سراحه عام 1946، بعد عام من انتهاء الحرب؛ ليبدأ في العام التالي دراسة النحت في مدينة دوسلدورف الألمانية لمدة عامين، ثم أتمَّ دراسته الجامعية في مجمع الفنون في دوسلدورف، فجامعة برلين التي أكمل فيها دراسته العليا بالفنون. "بأننا نحن الذين نجونا في أفضل الأحوال في النهاية أننا الهوامش في أفضل الأحوال".. عمل جراس في منجم في ألمانياالغربية، ثم عمل بالزراعة بعد تعذر عودته إلى مدينته التي باتت خاضعة للبولنديين والسوفييت، وفقًا للاتفاقيات التي قسّمت ممتلكات النازية بعد الحرب، وبعد إتمام دراسته الجامعية والدراسات العليا عمل نحاتًا ومُصممًا ومؤلفًا، وتولى بين عامي 1983 و1986 رئاسة أكاديمية برلين للفنون. احتل جراس مكانته كأحد أهم أدباء ألمانيا الذين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان من مؤيدي قضايا اليسار في ألمانيا، ومناهض للتدخل العسكري للدول الكبرى في أنحاء العالم، ومنها غزو العراق، كما أعلن تضامنه مع قضية الشعب الفلسطيني، وكان معروفًا عنه إعجابه بالموروث الثقافي لليمن الذي زاره عام 2004 للمشاركة في ملتقى الرواية العربية الألمانية، والذي عقد حينها في العاصمة صنعاء. كما انتقد سياسات إسرائيل النووية وشراءها غواصات ألمانية الصنع علنًا، وأغضب الأديب العالمي إسرائيل عندما أشاد بالخبير النووي "موردخاي فعنونو" الذي كشف تفاصيل البرنامج النووي الإسرائيلي السري عام 1986، وذلك في قصيدة تحمل عنوان "بطل من أيامنا" قال عنه فيها "هذا هو اسم البطل الذي كان يأمل في خدمة وطنه عن طريق مساعدته في إظهار الحقيقة إلى العلن"؛ ووقتها ردًا على ذلك دعت الرابطة العبرية للكتاب في إسرائيل المثقفين في العالم إلى مقاطعة جراس، وقالت "إن العنصرية النازية مترسخة في حمضه النووي". أنه الحق المزعوم بالضربة الأولى من قبل مقهور متنمر وابتهاج منظم يمكن توجيهه لمحو الشعب الإيراني لاشتباههم أنه يصنع قنبلة نووية".. وفي أبريل 2012، عاد جراس لتحدي إسرائيل، فنشر قصيدة عنوانها "ما يجب أن يُقال"، والتي شن فيها هجومًا حادًا على إسرائيل، ووصفها بأنها تهدد السلام العالمي، وانتقد رغبتها في شن هجوم عسكري على إيران، ووصفت الصحف الألمانية تلك القصيدة بأنها "معادية للسامية". "لماذا امتنع عن تسمية ذلك البلد الآخر الذي يمتلك ومنذ سنوات، رغم السرية المفروضة قدرات نووية مُتنامية لكن خارج نطاق المراقبة لأنه لايسمح بإجراء الكشف عليها".. نالت رواية جراس "الطبل الصفيح" شهرة عالمية كبيرة بعد نشرها عام 1959، وتمت ترجمتها إلى لغات كثيرة من بينها العربية، وهي جزء من ثلاثيته المعروفة ب"ثلاثية دانتسيج" التي تضم أيضًا روايتي "القط والفأر"، و"سنوات الكلاب"، ومن رواياته المشهورة أيضًا "مئويتي"، و"مشية السرطان"؛ كما تميّز جراس أيضًا في كتاباته المسرحية، فكتب مسرحيتين، أولهما "الطهاة الأشرار"، و"الفيضان"، كما أصدر أربع مجموعات شعرية. التستر العام على هذه الحقيقة وصمتي جاء ضمنه أحسها ككذبة مرهقة لي وإجبار ضمن عقوبة الرأي عندما يتم تجاهلها الحكم ب"معاداة السامية" المألوف ومازالت رواية "الطبل الصفيح" حتى اليوم مثار جدل واسع في مختلف الأوساط الثقافية والسياسية والاجتماعية، فهي عميقة الدلالة، ذكية في تناولها للموضوعات سواء المحرم منها أوالمباح، ولاذعة في سخريتها، وقد اعتمدت في بعض تقنياتها على أسلوب السرد العربي القديم الذي ينتمي إليه جراس حسبما قال بنفسه في مناسبات عديدة؛ وقد تم تحويل الرواية التي رآها البعض تتناول أهم ما حدث في أوروبا في القرن العشرين، بمنظور جراس الأوروبي، إلى فيلم سينمائي عام 1979 أخرجه فولكر شلندروف، ونال الفيلم جائزتي أوسكار. كذلك كانت شقيقتها في الثلاثية "القط والفأر"، حيث أن محنة بطل هذه الرواية، لا تقل من حيث غرابتها عن محنة بطل "الطبل الصفيح"، وإن كان الأول يتمتع بجسد كامل، فقد بدأت محنته بين زملائه في المدرسة أثناء الحرب العالمية الثانية في مدينة دانتسيج، ويتولى رواية قصته فيها زميله بيلنتس الذي ينتبه إلى غضروفه المتضخم، إلى تفاحة آدم في عنقه ويضع عليه قطًا، وبطل القصة يعاني من تفاحة آدم هذه التي تتحرك كما يتحرك الفأر، عندما يأكل أو يبلع أو يتحدث، ولكن عدو هذا الفأر هو القط وليد تصور الراوي وخياله، فيظل غير منظور، بحيث لا يُرى وهو يطارد الفأر أو يلعب به، فكان رمز إلى محنته والمجتمع الذي يعيش فيه. "غواصة أخرى إلى إسرائيل يجب تسليمها، قدرتها تكمن، بتوجيه الرءوس المتفجرة المدمرة إلى حيث لم يثبت وجود قنبلة ذرية واحدة ولكن الخوف يأخذ مكان الدليل".. حصل جراس على جائزة نوبل للآداب عام 1999 لدوره في إثراء الأدب العالمي، خاصة في ثلاثيته الشهيرة "ثلاثية دانتسيج"، إضافة إلى جوائز محلية كثيرة منها جائزة كارل فون أوسيتسكي عام 1967، وجائزة الأدب من مجمع بافاريا للعلوم والفنون عام 1994، وفي عام 2005 حصل على شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة برلين. "غواصة أخرى إلى إسرائيل يجب تسليمها، قدرتها تكمن، بتوجيه الرءوس المتفجرة المدمرة إلى حيث لم يثبت وجود قنبلة ذرية واحدة ولكن الخوف يأخذ مكان الدليل".. وفي صباح اليوم الثالث عشر من أبريل 2015 أعلنت دار نشر شتايدل المسئولة عن أعمال جراس أن "حائز جائزة نوبل للآداب جونتر جراس توفي صباح اليوم عن عمر 87 عامًا في أحد مستشفيات لوبيك"، والواقعة شمال ألمانيا، ليقبع جراس مُنتظرًا التابوت الذي سيرافقه تحت الأرض، بينما تظل أعماله موجودة في فضاء الأدب العالمي. "أقول ما يجب أن يقال ولكن لماذا حتى الآن؟"..