إلى عاصمة العرب، القاهرة، تأتى زيارة العاهل السعودى، خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، فى سياق ما تموج به المنطقة من حركة لا تنقطع تستهدف إعادة النظر فى التوازنات الإقليمية، بما يتوافق ومتغيرات الأوضاع على الساحة الدولية إجمالاً. غير أن تناولًا أكثر موضوعية، للزيارة ودوافعها وتبعاتها، ينبغى أن نعبر به عن مشروعية فرصتنا فى المضى قدمًا صوب مستقبل أفضل للأجيال القادمة، وهو أمر وثيق الصلة بقدرتنا على ضبط كثير من المفاهيم الضاغطة على حركتنا الإقليمية والدولية، كدولة محورية، محسوبة بقوة إلى جانب الكتل الإقليمية الرئيسية، السعودية وتركيا وإيران وإسرائيل. ففى لحظتنا الراهنة، ريادة مصر، وتصدرها المشهد العربى، لا يعد مكسبًا لمصر، قدر ما هو أحد أقدارها التاريخية؛ ومن ثم فهى ريادة يمكن احتسابها فى رصيد المكتسبات العربية، قبل أن تشكل عبئًا ومسئولية ضخمة لا تملك الدولة المصرية عنها تراجعًا أو تراخيًا. على هذا الأساس، تبدو الاستثمارات العربية عمومًا فى مصر، ما هى إلا استثمار فى الأمن القومى العربى، وتمسكًا عربيًا حكيمًا بدواعى تماسكها فى مواجهة ما يُحاك لها من سياسات تستهدف النيل من مقدراتها، وزعزعة استقرارها، لصالح قوى الاستعمار الجديد. من هنا، تبدو الفرص الاستثمارية، وحسابات المكسب والخسارة، وقد خضعت لمعايير سياسية/أمنية فى المقام الأول. وبالتالى تبدو الرهانات الاقتصادية مرتكزة على قواعد الأمن القومى العربى، وهو أمر تأخر كثيرًا، ودفعت الأمة العربية مقابله من أمنها واستقرارها الكثير حتى باتت تواجه بالفعل حروب بقاء حقيقية. فى هذا السياق، تبدو الحفاوة البالغة بالاستثمارات السعودية فى مصر، وقد أخفت خلفها ملفات شاقة لا يمكن قبول الإخفاق فى تناولها على نحو صحيح، وفك شفرات ما بها من تقاطعات، وما يشوبها من تباينات، باعتبارها سمات لازمة للعلاقات الدولية المعاصرة. ولعل ضبطًا واجبًا بات مُلحًا، يتعلق برؤيتنا لمفهوم العلاقات الدولية فى صياغتها العربية. فليس من شك أن العلاقات الدولية تتأسس على مبادئ المصالح المشتركة، والاعتماد المتبادل، والاحترام المتبادل، ووفق ما يُمليه علينا مفهوم القوة الشاملة من محددات، باعتبار واقعية نظرية القوة فى العلاقات الدولية، وكونها ترتكز على دروس تاريخية مؤكدة. غير أن الامتداد العربى للمفهوم يشير إلى أن المصالح المشتركة تمتد قطعًا لتبلغ حد المصير المشترك، مع عمق وتشعب المشترك العربى من التحديات والمخاطر. ولعل تفصيلًا مهمًا داخل طيات مفهوم العلاقات الدولية، بصيغتها العربية، نؤكد من خلاله حتمية قبول تباينات نتجاوزها كثيرًا فيما نطلقه كثيرًا من تعبيرات غريبة على صحيح المفهوم؛ إذ نؤكد دومًا على فكرة «التطابق» فى وجهات النظر والمواقف. وهو أمر لا يعنى إلا جنوحنا بعيدًا عن سواء السبيل؛ إذ لا بديل عن قبول مشقة إيجاد سُبل مشتركة، تحفظ لكل جانب خصوصية مجتمعية على الأرض تفرض تداعياتها بقوة. فليس من شك أن تباينات لا يمكن تجاهلها فى المواقف بين القاهرة والرياض، فيما يتعلق بملفات إقليمية بعينها، يمكن رصدها بوضوح، دون أن ينتقص ذلك من حرصنا على بلوغ مراحل متقدمة من العمل العربى المشترك بقيادة مصرية/سعودية. على قمة الملفات الشائكة يأتى الملف السوري؛ إذ تتخذ السعودية موقفًا أكثر تشددًا تجاه نظام بشار الأسد، رافضة قبوله طرفا فى المرحلة الانتقالية. فيما ترى مصر أن بقاء الأسد يضمن سيرًا آمنًا بالدولة السورية إلى تحول سياسى لا تفتك به صراعات مسلحة من شأنها تفتيت الدولة السورية برمتها لصالح أعداء الوطن العربى إجمالًا، ليظل الأمر حكرًا على الإرادة الشعبية السورية. غير أن التزامًا مشتركًا، بين القاهرة والرياض، يمكن أن تشكله حتمية اللجوء إلى الإرادة الشعبية السورية، لتحدد مصيرها. وهو أمر شهد الكثير من التوافق فى الفترة الأخيرة بين روسيا والولايات المتحدة، بما يعزز من فرص تلاقى وجهات النظر المصرية والسعودية فى هذا الخصوص. على جانب آخر، تبدو الأزمة اليمنية، شديدة الوطأة على استقرار السعودية؛ ومن ثم سارعت مصر إلى مساندة الجهود السعودية الرامية إلى إعادة الاستقرار إلى هذه البقعة الإستراتيجية فى منظومة الأمن القومى العربى. غير أن تباينات فرضت نفسها إزاء وجود قوات برية مصرية على الأرض اليمنية؛ إذ التزمت مصر درسها التاريخى، دون أن تتخفف من التزاماتها بمؤازرة الجهود السعودية جوًا وبحرًا، إلى جانب الدعم السياسى لحق الشعب اليمنى فى اختيار مصيره، ودعم المواجهة السعودية للمد الإيرانى المتوغل فى المنطقة، سواء فى اليمن أو البحرين، أو حتى فى لبنان عن طريق حزب الله. من جهة أخرى، ودون أدنى تفريط فى السيادة المصرية، ليس من المنتظر أن ترفض مصر المساعى السعودية لتمهيد الطريق إلى تحسين العلاقات المصرية/التركية، بغرض بلورة كيان يمكن أن يجابه المد الإيرانى العنيد، فى ظل التفاهمات الأمريكية/الإيرانية التى مثلها الاتفاق النووى الإيرانى، وما يعنيه من مخاطر على الأمن القومى العربى. ولا يخفى على كل مراقب المدى البعيد الذى انزلق إليه الموقف التركى إلى داخل الإرادة الشعبية المصرية الحرة، فيما يشير إلى محاولات تركية لتصدر المشهد الإقليمى على حساب الكتل الرئيسية الأخرى، لتدعم موقفها فى المطالبة المستمرة بعضوية الاتحاد الأوروبى، كلاعب أساسى فى المنطقة الأكثر توترًا، يمكن أن تشكل عضويته فى النادى الأوروبى مكسبًا للقارة الأوروبية، إذ تسعى تركيا، بمرتكزاتها الإسلامية، وقيمها الغربية، لأن تتخذ أوروبا منها جسرًا آمنًا إلى المنطقة، رغم ما تواجهه من عقبات جراء انتقادات أوروبية واسعة النطاق تلاحقها فى ملفات حقوق الإنسان خاصة. ودون الإشارة إلى إسرائيل صراحة، فهى حاضرة بقوة فيما سبق من ترتيبات تستهدف إعادة صياغة توازنات القوى الإقليمية. غير أن ملف الصراع العربي/الإسرائيلى، لا يمكن تحقيق إنجاز حقيقى فيه قبل إعادة ترتيب أوراق البيت العربى، وتأكيد مركزيته فى النظام الإقليمي؛ إذ لا سبيل إلى مواجهة السياسات الإسرائيلية برؤى منفردة، وإن أخلصت. ذلك أن الكيانات الأقوى تحقق دومًا أهدافها، وإن عظمت. بينما الجهود الفردية، باتت صيغة متراجعة، تعجز عن بلوغ غاياتها وإن حازت مشروعيتها. فى هذا السياق، إلى القاهرة، عاصمة العرب، سافر الملك سلمان، حاملًا رغبة حقيقية فى دعم وتعزيز الأمن القومى العربى. تطرفت رؤى فرأتها، بقصور بالغ، سعيًا إلى جذب مصر إلى حيث مواقف سعودية فى ملفات بعينها. وقصرت رؤى أخرى باتجاه آخر؛ إذ حصرتها فى بضعة مليارات من الدولارات تستثمر على الأرض المصرية.