ربما تأتى أهمية كتاب «سطوة النص.. خطاب الأزهر وأزمة الحكم» للباحثة بسمة عبدالعزيز الصادر مؤخرا عن دار صفصافة من ندرة الكتب الجادة التى تعمل على تحليل السياقات الخطابية والاجتماعية والسياسية فى المجتمع المصرى، حيث ارتكن معظم الكتاب إلى السهولة سواء فى الكتابة الأدبية، أو الكتابة البحثية محاولين قدر جهدهم الابتعاد عن مناهج البحث الوعرة التى تزيد من صعوبة الموضوع مجال البحث، وتجعل استقصاء الحقائق من الصعوبة بمكان ما قد يجعل بحثهم يتوقف ويصل إلى طريق مسدود. لكننا نلاحظ فى كتاب بسمة عبدالعزيز أنها ارتأت اختيار الطريق الأصعب فى مجال بحثها من أجل تحليل السياق الذى أدى إلى صدور الخطاب الدينى المختلط بالسياسة لمؤسسة الأزهر فى فترة البحث التى حددتها وهى الفترة التى تبدأ من شهر يونيو عام ألفين وثلاثة عشر، وتنتهى بنهاية شهر أغسطس من العام نفسه لدراسة هذا الخطاب، كونها اكتظت بأحداث جسام، وحفلت بمواقف حاسمة لا يمكن تجاهلها لشيخ ومشيخة الأزهر. البحث كان فى الأساس رسالة من أجل نيل درجة الماجستير من إحدى الجامعات المصرية، إلا أن المشرف على البحث كما تقول المؤلفة رفض بحثها منذ البداية، بسبب إشكالية تعلقت بصلب موضوع البحث، حيث بدأت الحديث مع المشرف عن «خطاب المؤسسة الدينية» بينما كان يصرّ هو على تعبير «الخطاب الدينى»، رغم أن تساؤلها الذى تساءلته حينها كان واقعيا حينما قالت: «هل الخطاب يُوصف بصفة مُنتجة أم بكُنه محتواه، أى يُوصف الخطاب بأنه «خطاب دينى» لأن مُنتجه رجل دين، أم لأنه يتكون من نصوص دينية أو يحوى بعضها، أو لأن موضوعه الرئيس هو الدين، وإذا تكلم رجل دين فى أمر من أمور السياسة أيُطلق على خطابه خطاب سياسى أم خطاب دينى؟»، ورغم وجاهة هذا التساؤل الذى يعضد من وجهة نظرها من حيث الانطلاق فى البحث، إلا أن المشرف على الرسالة أصرّ على موقفه، ورفض منطلقها الأول للبحث. رغم أن بحث المؤلفة كان يعتمد على تحليل الخطاب الدينى الصادر عن مؤسسة الأزهر، وهو الخطاب الذى يختلط بالسياسة ويحاول تطويع الدين من أجل المواقف السياسية باسم مؤسسة الأزهر حينا، وباسم شيخ الأزهر أحمد الطيب فى أحيان أخرى مراوحا فى هذا الخطاب من أجل المصالح المشتركة بين الأزهر وبين ميله وانتمائه السياسى فى هذه الفترة، وهو الانتماء الذى اختلف أكثر من مرة فى الشهور الثلاثة مجال البحث من ميل إلى جماعة الإخوان المسلمين باعتبارهم من يتولون زمام السلطة والأمور، حيث كان يمثلهم الرئيس محمد مرسى، ثم سرعان ما تغير هذا الخطاب فيما بعد إلى الوقوف أحيانا على الحياد، بل ورفض هذا التيار الدينى الذى تمثله السلطة حينما استشعر الأزهر أن هدف النظام والجماعة التى خلفه هو سحب البساط السلطوى الدينى من تحت قدمى الأزهر، ثم التغير التام فى موقف مؤسسة الأزهر من الرئيس مرسى والجماعة ومن ثم الوقوف ضده إلى جانب المؤسسة العسكرية التى يمثلها الرئيس السيسى، وبالتالى دعا خطاب الأزهر الجميع إلى مساندة المؤسسة العسكرية فى الخروج على الرئيس، نقول رغم أنها اهتمت فى مجال بحثها بتحليل هذا الخطاب المختلط بالسياسة، إلا أن مشرف البحث أصرّ على فرض وجهة نظره عليها والمتمثلة فى وجود نموذج مثالى لتطبيق الدين الإسلامى، متمثل فى مواقف الرسول والصحابة والخلفاء الراشدين، وحاول دفعها إلى مقارنة مواقف شيخ ومشيخة الأزهر بهذا النموذج، وهو ما لا يمكن تطبيقه على هذا البحث الذى يعمل على تحليل السياق الخطابى للمؤسسة الدينية، والظروف والعوامل السياسية والاقتصادية التى أدت إلى إنتاجه، كما أن مجال البحث لا علاقة له بالدراسات المقارنة كى تخضع لمثل هذه الرؤية، الأمر الذى أدى إلى رفض رسالتها من قبل المشرف فى نهاية الأمر، حيث طعن فى منهج البحث المستخدم، والإجراءات والتعريفات والمفاهيم وحتى الأدوات، ثم طعن فى مصداقية الأشخاص الذين قابلتهم، واستهجن المعلومات التى استقتها منهم، مشيرا إلى انتمائهم إلى جماعة الإخوان المسلمين، رغم وجودهم فى مواقع مسئولية مهمة، ومؤثرة خلال فترة الدراسة، كما رفض الاعتراف بأى أخبار وردت فى الصحف، حتى بعد عقد مقارنات وعرض أكثر من صيغة واتجاه. لعل مثل هذا الرفض والتحامل على موضوع الرسالة جاء من السطوة الدينية لمؤسسة الأزهر، هذه السطوة التى نشأت فى العقل الجمعى لدى معظم المسلمين مع الوقت حتى لقد بات الاعتراض على مؤسسة الأزهر وقراراتها وما تذهب إليه بمثابة الاعتراض على الدين الإسلامى ذاته لدى النسبة الغالبة من المجتمع، وهو ما دفع مؤسسة الأزهر نفسها إلى إلغاء رسالة علمية مُسجلة فى جامعة الأزهر، وإحالة مشرفيها إلى التحقيق، بسبب توصيف الباحث لما جرى فى الثالث من يونيو 2013م من تبدل فى مواقع السلطة بكونه انقلابا، وهو توصيف يحتمل الجدل العلمى والنقاش، ولعل هذه الواقعة تُعد فى حقيقة الأمر واقعة خطيرة، لأنها تعمل على مُصادرة الرؤية البحثية إذا ما اختلفت مع المؤسسة، ولأنها تدل على أن مؤسسة الأزهر التى انساقت إلى النظام السياسى رأت فى وصف النظام السياسى بالانقلاب ما يستدعى بالضرورة إلى منع الرسالة والتحقيق مع مسئوليها. تحرص المؤلفة على الالتزام بتوضيح المنهج والإجراءات البحثية التى لجأت إليها من أجل إنجاز هذه الرسالة العلمية المهمة، لتنتقل فيما بعد إلى الحديث عن السياقات التى أدت إلى إنتاج الخطاب الدينى والسياسى الصادر عن مؤسسة الأزهر باعتبارها مؤسسة دينية وإن كانت تتلاعب دائما فى خطاباتها تبعا لانحيازاتها السياسية ومدى رفضها أو قبولها للموقف السياسى الذى كانت تحاول دائما تغليفه بالغلاف الدينى من خلال الأحاديث أو الآيات القرآنية، كى تحاول إكساب مثل هذا الخطاب السياسى مصداقية دينية يقبلها الجمهور المُوجه إليه هذا الخطاب السياسى، ومن هنا تأتى سطوة هذا النص/الخطاب الذى يصدر عن مؤسسة دينية لها مكانة فى نفوس العوام، حيث يتم استخدام الدين من أجل خدمة العديد من المصالح والميول السياسية باعتبار أن ما يصدر عن هذه المؤسسة له مكانته وقداسته عند العوام. تتحدث المؤلفة عن الدور الذى تلعبه مؤسسة الأزهر من خلال شيخها وكيف أن لهذا الدور من الخطورة ما يجعل رأيه مؤثرا فى الرأى العام الذى يرى كل ما يصدر عن الأزهر مقدسا وموثوقا به، كما تؤكد أن لهذه المؤسسة وشيخها قدرا كبيرا من السلطة والحصانة التى تسلب من الجميع الجرأة فى الحديث عنهم، أو المطالبة بتنحيهم عن منصبهم، باعتباره رمزا من الرموز الدينية التى لا يمكن المساس بها، لذلك جاءت المطالبة باستبعاد الشيخ الطيب من منصبه مفاجأة غير متوقعة، نبهت أنه ما من حدود لطموحات التغيير بعد ثورة يناير، وما من أحد بمأمن من المحاسبة التى قد تطال أعلى القامات والرموز وتجترئ عليها. ولكن سرعان ما خمدت الزوبعة وانتهت، حيث قام المجلس العسكرى خلال فترة حكمه بوضع مرسوم قانون رقم 13 لسنة 2012م لتعديل قانون الأزهر رقم 103 لسنة 1961م، وبموجب التعديل أصبح شيخ الأزهر متمتعا بمجموعة من التدابير، وبحصانة كاملة تحميه من المساءلة، وهو دليل على تحالف النظام السياسى مع المؤسسة الدينية التى تعمل على خدمة هذا النظام، فى مقابل أن يكون لها دورها المستقل الذى يتيح لها عدم التدخل فى شئونها. لعل مساندة النظام للمؤسسة الدينية حينما يرغب فى أن يستمد منها الشرعية أمام الرأى العام يتضح حينما انتقد مؤتمر إسطنبول الإسلامى شيخ الأزهر حينما قال رئيس الوزراء التركى بعدما دعم الطيب المؤسسة العسكرية وظهوره جنبا إلى جنب مع وزير الدفاع المصرى فى أثناء إلقاء خطاب عزل الرئيس محمد مرسى: «كيف يمكنك القيام بذلك؟ إن ذلك العالِم قد انتهى. إن التاريخ سيلعن الرجال أمثاله كما لعن التاريخ علماء أشباهه فى تركيا من قبل»، توضح المؤلفة أنه حينها تصدت أطراف عدة للدفاع عن شيخ الأزهر، فزار المستشار الإعلامى للرئاسة مشيخة الأزهر مُساندا، وردّت وزارة الخارجية المصرية بإصدار بيان أدانت فيه تصريحات رئيس وزراء تركيا ذاكرة أنه «تطاول على قامة دينية وإسلامية كبرى ممثلة فى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الذى يمثل أكبر وأعرق مؤسسة وجامعة إسلامية فى العالم أجمع»، كما طالب رئيس الوزراء المصرى حينها بعدم المساس بالرموز الدينية وفى مقدمتها شيخ الأزهر «لما يمثله لمصر والعالم العربى والإسلامى من قيمة كبيرة، بالإضافة إلى كونه رأس أكبر المؤسسات الإسلامية فى العالم التى تعمل على نشر الدين الإسلامى الصحيح وتعاليمه السمحة». من خلال ردود الأفعال التى رأيناها من المؤسسة العسكرية والسياسية يتضح لنا الدور النفعى المتبادل بين المؤسسة الدينية وحليفتها العسكرية، فى محاولة لخدمة كل منهما الآخر من خلال الخطاب الذى يصدر عنهما. تؤكد الباحثة أن هناك تماهيا حقيقيا بين مؤسسة الأزهر كمؤسسة دينية وبين شيخ الأزهر الذى يعتبر نفسه هو المؤسسة ذاتها، وبالتالى يكون رأيه هو رأى المؤسسة بكل من فيها، بل تُعد الإساءة إليه إساءة للمؤسسة كلها بكل من فيها، كما أنها مؤسسة دينية سلطوية مثلها مثل مؤسسة الحكم، ولعل هذا التماهى ظهر على سبيل المثال حين لجأ الشيخ طنطاوى فى إحدى معاركه مع الصحافة إلى القضاء، متهما رئيس تحرير صحيفة مشهورة بسب الأزهر وقذفه، وحين سُئل عن ملابسات الأمر قال: «لقد سبنى، وما دام سبنى فقد سب المؤسسة كلها».