«الصحة» تتلاعب فى مناقصة لبن الأطفال المدعم لصالح «مافيا القطاع الخاص» الوزارة تقبل شركتين بالمخالفة للقانون وتتغاضى عن شرط يتعلق بالأمن القومي فى الوقت الذى تلتفت فيه الدولة وينشغل الرأى العام بمحاولات اختراق الأمن القومى المصرى عسكريا وسياسيا، يغفل الجميع ممارسات أخرى داخلية لا تقل فى خطورتها على الأمن القومى من المحاولات الخارجية، ربما لأن كثيرين يخرجون الأخطار التى تهدد صحة المواطنين من دائرة التهديدات المباشرة للأمن القومى، أو لأن المعنى الدقيق للمصطلح يغيب عن بعض المهتمين بالشأن العام، وإذا كان ملف الصحة العامة لا يقل خطورة عن قضية تأمين الحدود، فإن العبث به سواء بقصد وسوء نية أو بغير تعمد، يمثل جريمة تستوجب تعرض مرتكبها لأشد أنوع العقوبة، وتصبح المشكلة أكبر عندما يأتى العبث من المسئولين عن مؤسسات الدولة أنفسهم، هنا أنت لست فى حاجة للحديث عن مؤامرات خارجية أو محاولات استهداف تتبناها دول أخرى. الجريمة التى بين أيدينا تفاصيلها تتمثل فى سعى وزارة الصحة عبر الطرق الملتوية، لإغلاق الشركة المصرية لتجارة الأدوية المملوكة للدولة بالضبة والمفتاح، تارة بالسعى الدؤوب لإفلاسها، من خلال استنزاف مواردها وعدم سداد مستحقاتها لدى الوزارة، التى تبلغ مليار جنيه بالتمام والكمال، الأمر الذى يكلفها أعباء مالية، تبلغ 300 ألف جنيه يوميا فوائد قروض تحصل عليها الشركة، وفاء لالتزاماتها تجاه الوزارة، وتارة أخرى بتجاهل أبعاد ومتطلبات الأمن القومى فى إسناد عمليات استيراد لبن الأطفال المدعم، من خلال استخدام أساليب التحايل ودهس الإجراءات القانونية، لسحب مهمة الاستيراد من الشركة التى نشأت لهذا الغرض، وإسنادها لاثنتين من كبريات شركات القطاع الخاص، إحداهما مملوكة لأحمد العزبى مستشار الوزير السابق. التفاصيل كافية لأن تقلب الدنيا رأسا على عقب، بل تحرض على الصراخ من عواقبها الوخيمة، لذا لم يكن غريبا، أن تكون هى وغيرها من الأمور الأخرى، فى مرمى الاهتمام من جهات سيادية رفيعة، تلقت المعلومات والعديد من الوثائق، التى تفيد إصرار بعض المسئولين على الاستمرار فى العبث والرغبة فى دهس القانون تحت عجلات أصحاب النفوذ. قبل يومين وتحديدا صباح الأربعاء 16 مارس، خرج من كواليس وزارة الصحة ما جعل المسكوت عنه حديثا متواترا، ليس فقط فى الجهات الرقابية المعنية بالأمر، بل فى أوساط العاملين بسوق الدواء، فأثناء فتح المظاريف المالية الخاصة بمناقصة استيراد الألبان المدعمة لصالح وزارة الصحة ب25 مليون عبوة سنويا، تم إجراء الممارسة بين 3 شركات، إحداها مملوكة للدولة، وشركتان من القطاع الخاص. تقدمت المصرية لتجارة وتوزيع الأدوية بعرض مالى هو 30 جنيها ونصف الجنيه للعبوة ال450 جراما، بينما تقدم المتنافسان بسعر 31 جنيها للعبوة ال400 جرام، وبذلك تصبح المناقصة من نصيب الشركة المصرية وفق الإجراءات القانونية، إلا أن محاولات جرت فى الخفاء، وصل صداها للأجهزة الرقابية بعد ساعات قليلة من فتح المظاريف، حيث تسربت إليها المعلومات، بأن ضغوطا تمارس من مسئولين كبار داخل الوزارة على الشركة الوطنية التى رسا عليها العطاء، هدفها اقتسام أوامر التوريد مع إحدى الشركتين أو التهديد بإلغائها تماما. المناقصة تعلقت بالألبان المدعمة «شبيهة لبن الأم»، ويتم توزيعها على مراكز الأمومة والطفولة التابعة للوزارة، بسعر 3 جنيهات لمستحقى الدعم الكلى، وبسعر 18 جنيها لمستحقى الدعم الجزئى، بينما يصل سعر العبوة نفسها فى الصيدليات إلى 50 جنيها، وهى العبوات المستوردة من القطاع الخاص، وغير المدعمة من الدولة، حيث تستورد الشركات الخاصة نحو 30 مليون عبوة من مختلف الأصناف. القصة التى حصلنا على مستنداتها بدأت أحداثها عندما أعلنت الوزارة عن مناقصة لاستيراد ألبان الأطفال لصالح الوزارة، فتقدمت المصرية لتجارة وتوزيع الأدوية بعرض وحيد وفق الإجراءات المعمول بها، إلا أن الوزارة ألغت المناقصة، ثم أعادت طرحها مرة أخرى، وفى المرة الثانية تقدمت شركتا قطاع خاص بعرضين موازيين، الشركة الأولى هى «مالتى فارما» المملوكة لأحمد العزبى، مستشار الوزير، والثانية هى «المتحدة للصيادلة». قرار الوزارة يمثل تغيرا فارقا فى هذا الملف، إذا كانت الوزارة فى السابق – لدواعى الأمن القومى– تسند المهمة للشركة بالأمر المباشر، وتشترط عليها تنويع مصادر استيراد الألبان لتفادى احتمالات وجود مشكلات فنية أو غيرها فى الدولة المصدرة. الأهم من ذلك أنه بحسب المذكرة المرفوعة من الشركة المصرية لتجارة الأدوية إلى رئيس لجنة البت فى ممارسة استيراد ألبان الأطفال، فإن وزارة الصحة قررت فى 7 فبراير 2016 فتح المظروف الفنى للشركات المتقدمة للمناقصة، دون إخطار الشركة المصرية للأدوية بالمخالفة لقانون المناقصات والمزيدات، والقانون رقم 89 لسنة 1998 ولائحته التنفيذية. بل قامت لجنة البت كما تشير المستندات بقبول أوراق الشركتين السابق ذكرهما، رغم أن واحدة منهما وهى «مالتى فارما» ليس لها أى سابقة أعمال تذكر فى استيراد الألبان، وهذا مخالف للقانون ولبنود كراسة الشروط التى تشترط وجود سابقة خبرة للشركات المتقدمة للمناقصة، كما أن الشركة الأخرى وهى «المتحدة للصيدلة» لها سابقة استيراد 3 ملايين علبة ألبان أطفال منذ عشر سنوات لصالح وزارة الصحة، وباءت بالفشل، وتم سحبها لعدم تمكن الشركة من إتمام المناقصة. الأدهى من ذلك أن قامت وزارة الصحة بتعديل شروط المناقصة لتكون العبوات الخاصة بالألبان وزن 400 جرام بدلا من 450 جراما، وذلك مجاملة لإحدى الشركتين التى لا تمتلك إلا منتجا وحيدا من الألبان وزن العبوة 400 جرام. المستندات التى حصلنا عليها تكشف مخالفة وزارة الصحة للبند 25 من كراسة الشروط بالممارسة المطروحة، الذى يشترط فى الشركات المتقدمة ضرورة وجود أكثر من مورد فى عدة دول وتجزئة الكميات، وذلك لضمان استمرارية توافر الألبان المدعمة فى السوق المحلية، تحسبا لحدوث أى مصاعب أو أمراض وبائية فى أحد البلاد المنتجة، وهو ما ينتج عنه توقف استيراد الألبان، فيجب أن تكون الشركة الموردة للألبان متعاقدة مع ثلاثة موردين مختلفين على الأقل، الأمر الذى تغاضت عنه لجنة البت فى وزارة الصحة لصالح القطاع الخاص، وقامت بقبول العرض الفنى للشركتين الأخريين المتحدة ومالتى فارما، رغم أنهما لم يتضمنا غير مورد واحد، ولم يسبق عنهما توريد ألبان لوزارة الصحة من قبل. المثير للدهشة هو إصرار المسئولين بالوزارة على الاستمرار فى تخريب الشركات المنوط بها تنفيذ سياسات الدولة الدوائية، بعيدا عن الاحتكار، تبلورت مواقف الوزارة فى هذا الشأن، عبر قيامها بإلغاء 3 مناقصات تفوز بها الشركة، منها واحدة كانت عرضا وحيدا، الأمر الذى يفتح الباب على مصراعيه أمام تدافع علامات الاستفهام، وتنامى وتيرة التكهنات، التى تصل إلى حد الاتهامات لبعض المسئولين المتورطين والمعلومين بالضرورة للجهات الرقابية، خاصة إذا علمنا أن هؤلاء مرتبطون بمافيا استيراد الدواء الراغبين فى السيطرة على السوق والتحكم فى الأسعار، فضلا عن التورط فى إلغاء 26 توكيلا لاستيراد وتوزيع أدوية لكبرى الشركات العالمية المتخصصة فى صناعة أدوية الأمراض المزمنة، الأمر الذى قاد إلى ارتفاع أسعارها فى الصيدليات. مصدر مسئول داخل القابضة للأدوية قال إن ما تقوم به وزارة الصحة من تعنت مع الشركات التابعة للدولة يعتبر خطوة تمهيدية لإغلاقها وبيعها لصالح مافيا الأدوية، وسيطرة القطاع الخاص على سوق الدواء فى مصر، وأضاف المصدر الذى رفض نشر اسمه: «رغم أن مديونية وزارة الصحة المسحوبة من القابضة للأدوية تتجاوز المليار جنيه، مما يجعل الشركة تسحب من البنوك على المكشوف من أجل الوفاء بالتزامات الوزارة والمرضى، وهو ما يكلف الشركة أرباحا بنكية كبيرة تتجاوز أرباحها السوقية، وهو ما يهدد الشركة بالإغلاق، إلا أن سياسة الوزارة لا تكتفى بذلك، بل قامت الوزارة مؤخرا بسداد مستحقات الشركة المصرية للأدوية من ألبان الأطفال عن العام المالى 2015.2016 التى تقدر بحوالى 250 مليون جنيه». رفض الصحة جاء رغم وجود مطابقة للصرف صادرة من الجهاز المركزى للمحاسبات تؤكد توزيع الكميات من ألبان الأطفال للعام الماضى، إلا أن المسئولين بالوزارة طالبوا الشركة بإرسال فواتير الصرف حتى تتمكن الوزارة من الصرف، وأشار المصدر وهذا لم يكن متبعا فى السنوات السابقة، وهو شرط تعجيزى للشركة المصرية لأن عدد الفواتير يتجاوز 12 مليون فاتورة، ولا يمكن جمعها. وقال الدكتور شريف السبكى، العضو المنتدب للشركة المصرية للأدوية، إن أزمة الألبان الأخيرة تكشف عن نية البعض للقضاء على صناعة وتجارة الأدوية الوطنية لصالح القطاع الخاص، وأضاف السبكى أن مستحقات الشركة المصرية لتجارة الأدوية لدى وزارة الصحة تجاوزت المليار جنيه، ولم تقم الوزارة بسدادها حتى الآن، مما يكلف الشركة فوائد أرباح يومية تتجاوز 300 ألف جنيه، مما يعرضها لخسائر كبيرة. ومن جانبه قال الدكتور محيى عبيد، نقيب الصيادلة، إن ما يحدث هو مخطط لتدمير شركات الدواء الحكومية وتصفيتها لصالح القطاع الخاص ومافيا الأدوية، وإن وزارة الصحة تشارك فى هذا المخطط، وإن ما يحدث من تلاعب فى شروط استيراد ألبان الأطفال أكبر دليل على ذلك، وأضاف عبيد أن وزارة الصحة ومافيا القطاع الخاص تريد تدمير الصناعة الوطنية للدواء، وللأسف هذا يحدث تحت سمع وبصر المسئولين فى الدولة، وإذا تمت ترسية ألبان الأطفال على القطاع الخاص فكيف تمكن الرقابة على توزيع هذه الألبان، لأن الشركات الحكومية تخضع لتفتيش ومطابقة الجهاز المركزى، وبذلك نضمن الرقابة عليها، أما القطاع الخاص فكيف نراقبه؟ من جانبه، قال الدكتور خالد عبد العزيز، رئيس قطاع الاستيراد فى الشركة المصرية لتجارة وتوزيع الأدوية، والمفوض لحضور المناقصة والممارسة المالية، إن قرار اللجنة تم لصالح الشركة المصرية بنسبة 100٪، لأن عرض الشركة المصرية هو الأقل فى السعر عن القطاع الخاص، ووفقا لما تم فى الممارسة فإن الشركة المصرية هى المتفوقة فى العرض الفنى والمالى، وأى كلام غير ذلك ليس له أى شرعية قانونية. وقال محمود فؤاد، مدير المركز المصرى للحق فى الدواء، إن الحملة التى تتعرض لها الشركات المملوكة للدولة، الهدف منها اغتيالها وتصفيتها، وتشريد العمالة الموجودة فيها، لصالح شركات أخرى منافسة فى العديد من المجالات، خاصة أن الشركة تقدم عددا من الأدوية الاستراتيجية للمصريين، بأسعار مناسبة، منها أدوية السكر والأورام والدم. وأوضح أن الشركة يوجد فيها أكثر من 7 آلاف عامل وصيدلى، وهى الوحيدة المملوكة للدولة، والتى تمارس أعمالا تجارية فقط، وليس لها علاقة بالتصنيع. وأضاف أن وزارة الصحة ترصد 610 ملايين جنيه سنويا لألبان الأطفال، وأن العبوة الواحدة يصل سعرها الحقيقى إلى 35 جنيها، بينما تباع مدعمة ب3 جنيهات فقط، ويقتصر دور الشركة على التوزيع، مشيرا إلى أن وزارة الصحة تشكل لجنة من 4 أفراد فى الوزارة، واثنين من معهد الأغذية القومى، لرصد وفحص كل ما يخص تفاصيل تلك الصفقة، منذ تواجد الألبان فى بلد المنشأ، وحتى وصولها إلى مصر، حيث يتم أخذ عينات منها وتحليلها فى المعامل المركزية بوزارة الصحة، ما يوضح أن دور الشركة لا يزيد على التوزيع. وأضاف: «بعض المسئولين فى وزارة الصحة يفسدون المنظومة، واللجنة المخصصة للتعاقد من غير المتخصصين فى الشأن الدوائى، ضمت بعض الأطباء الذين يشوب ملفاتهم الكثير من الشبهات».