لا شك أن اكتمال المؤسسات الدستورية للدولة المصرية، يمثل إشارة قوية إلى ما بلغته مسيرة الثورة من تقدم على مسار التحول الديمقراطى المنوط به تجسيد الطموحات الشعبية المشروعة التى تفجرت فى الخامس والعشرين من يناير، وتابعت الملايين التمسك بها فى الثلاثين من يونيو، بعد أن شوهتها إلى حد كبير ممارسات الجماعة الإرهابية على مدى عام تقريبًا؛ إذ أعادت العمل بقيم نظام مبارك، وعلى رأسها احتكار السلطة. والواقع أن نجاحنا فى قطع خطوات جادة وحقيقية على طريق التحول الديمقراطى، يبدو وفق الدروس التاريخية المقارنة، مرتبطًا بفك رموز إشكاليات وجدليات لطالما أعاقت طويلاً مسار التحول الديمقراطى فى كثير من المجتمعات، فكانت المحك الأساسى لقدرة المجتمع على بناء دولته الديمقراطية. فى هذا السياق يمكن فهم ما يدور داخل سطور خطابنا المجتمعى من مقارنات ومعادلات تهمل قواعد البناء الديمقراطى المعمول بها، دون أن نخصم كثيرًا من تداعيات ما تتمتع به المجتمعات من خصوصية، لا ينبغى أن نرتفع بها إلى مصاف مجادلة حقائق راسخة فى كل المجتمعات الديمقراطية. وفى ظل خصوصية كل مجتمع، تنمو أهمية ما يمكن أن تقدمه النخب، بكل أنواعها، من إبداع خلاق، وفق ما استوعبته من خصوصية المجتمع من جهة، وما تفرضه القواعد العامة المُنشئة لدولة ديمقراطية من جهة أخرى، وليس إلا كذلك تنجح عمليات التحول الديمقراطى. من جهة أخرى، تفرز الحالة الديمقراطية ملامح شتى، ينبغى أن ندركها فى موضعها الصحيح، دون تفسيرات وتحليلات غير موضوعية، لا سند لها فى التجارب الديمقراطية؛ طالما أن قواعد البناء الديمقراطى لا تهددها رؤى أو ممارسات معاكسة. على هذا النحو، يجدر بنا رصد مجموعة من الإشكاليات والمعادلات المجتمعية الحاكمة لحركة الدولة فى المرحلة الراهنة. يأتى على رأسها ما يحلو للبعض ترويجه بأن دعم الدولة يمكن أن يكون مظلة مقبولة لاستعادة قيم الاحتكار السياسى، ومصادرة الرأى الآخر، وإشاعة حالة من التشكيك لدى كل موقف سياسى معارض. مثلما يزايد البعض معلنًا أن الديمقراطية «أكثر من اللازم» يمكن أن تهدد استقرار الوطن!، وهى مزاعم لا سند لها فى التجارب التى سبقتنا إلى الديمقراطية سبيلًا مؤكدًا إلى التنمية الشاملة. كذلك إلى بقاء ثقافة نظام مبارك، وقد استعادته الجماعة الإرهابية لتحكمنا به عامًا طويلًا شاقًا، تشير محاولات مستميتة تسعى إلى استعادة مشهد ما قبل الثورة، ويسىء إلى الثورة أن تصدر تلك الدعاوى من نخب لطالما تعلقت بها الآمال لتحقيق الطموحات الثورية، فراحت بما تطرحه من جدليات تطعن فى قدرتنا على بناء دولة ديمقراطية حديثة. وحالة من الارتياح تجاه مستقبل الثورة المصرية، يؤكدها انحياز الرئيس السيسى للثورة المصرية الأم فى الخامس والعشرين من يناير، وموجتها التصحيحية فى الثلاثين من يونيو، حتى أن الرجل يؤكد أن انحراف ثورة يناير لم يكن من أبنائها، بل من أعداء الوطن. يقابل ذلك كثير من الشكوك إزاء وفرة المشككين فى ثورة يناير، واقترابهم من صدارة المشهد، بل وإعلانهم المتكرر دعمهم للرئيس السيسي!، فيما يُخضع الرأى العام لعمليات شد وجذب بين فئات متصارعة اجتمعت على الولاء للرئيس؛ بينما الكل يصارع مصالحه ويسابقها أينما ذهبت!. فى سياق آخر، تبدو أهمية البرلمان الجديد فى تقييم موقعنا على مسار التحول الديمقراطى باعتباره جامعًا لكل التيارات السياسية، وهى سمة محمودة، تعبر بصدق عن أهمية البرلمان باعتباره الشريك الشعبى فى الحكم، وأساس كل نظام ديمقراطي؛ إذ لا ديمقراطية بلا برلمان قوى حر، لا يستلهم نشاطه بعيدًا عن مسئولياته الوطنية الدستورية. وعلى ذلك، يجدر بنا أن نستوعب ما يدور فى مجلس النواب باعتباره المؤشر الحقيقى لما بلغته التجربة المصرية من تقدم على مسار التحول الديمقراطي؛ فلا نبالغ فى طموحاتنا «البرلمانية»؛ إذ لا تسمح حداثة التجربة بتفادى الكثير من السلبيات، بل أن مآخذ شتى ترتد فى الواقع إلى المناخ السياسى برمته؛ ومن ثم كان دخولها إلى قاعة البرلمان حقيقة ما كان ينبغى أن تغيب عن الجميع. فمحاولات الهيمنة على قرار المجلس، واختزال إرادته فى مجموعة واحدة، بضغط من شعارات واسعة تمتد لتشمل كل أبناء الوطن المخلصين، كل ذلك من شأنه إشاعة حالة من عدم اليقين تستفز الملايين التى دفعت الكثير من أمنها وراحتها ثمنًا لتغيرات جذرية فى المجتمع، تنهض بالوطن إلى موقعه الصحيح بين المجتمعات المتحضرة. غير أن إشكاليات نشأت تؤكد ضرورة الانتباه إلى ما فيها من مزايدات ومساومات لطالما أرهقت المسيرة الثورية؛ من ذلك أن جدلاً ينشأ جراء حتمية موافقة البرلمان على مئات القوانين الصادرة فى غياب البرلمان، فتعلو الأصوات مطالبة بإرادة برلمانية مستقلة، دون النظر إلى مراجعة دستورية تحتم ذلك، تحسم ما بين المتصارعين من جدل، فى غياب رؤى حكيمة ينتظرها الرأى العام ليطمئن إلى أن حق المجلس لن يسقط بالتقادم فى مراجعة تلك القوانين. فى المقابل، وعلى النقيض من ذلك، رأى البعض أن تحفزًا من بعض النواب يوجه على نحو دعائى فى مواجهة الحكومة، وهو حديث لا يخلو منه الواقع، غير أن إشكالية كتلك يبددها أن الأداء البرلمانى دائمًا ما يتخلص من دواعى التحفظ المعهودة فى أداء المؤسسات التنفيذية؛ ذلك أن الارتباط أقوى بين القواعد الشعبية ونواب المجلس، مقارنة بفواصل معتادة تحجب المسئول التنفيذى داخل أُطر رسمية أكثر صرامة. وتمتد الإشكاليات البرلمانية إلى وجه مغاير، حين يتم تفسير رفض المجلس لقانون أو لقرار حكومى، باعتباره عملاً لا يستند إلى مسئولية وطنية قدر ما يبتغى نيل جماهيرية فى غير موضعها!. وهو ما كان بشأن قانون الخدمة المدنية، حيث انحاز المجلس للإرادة الشعبية الرافضة لكثير من بنود القانون. والواقع أن قانون الخدمة المدنية المرفوض برلمانيًا، يستهدف معالجة قضايا حقيقية داخل الجهاز الإدارى للدولة، مع ما لذلك من انعكاسات كبيرة على مجمل أوضاع المجتمع. غير أن مشاركة برلمانية فى قانون بهذه الأهمية، هو أمر لا بديل عنه، خاصة أن القانون المرفوض لم ينل حظًا وافيًا من الحوار المجتمعى، كما أن تحفظات العاملين بالدولة عليه واضحة للجميع، إلى جانب أنه يعالج أزمات مزمنة متوارثة ومتصاعدة بنمو مكونات الجهاز الإدارى للدولة، وثقل الأعباء على كاهل الدولة، ما يستلزم جهدًا أكبر من الجميع. وربما يصلح «نموذج قانون الخدمة المدنية»، بتناقضاته تارة، وحتميته تارة أخرى، للإشارة إلى إشكالية الدولة المصرية الساعية إلى تحول ديمقراطى حقيقي؛ إذ عليها أن تحتضن فرقاء جدلية يناير/يونيو، ومصارعة تحديات ومخاطر تضافرت أطرافها ومظاهرها الداخلية والخارجية على نحو فريد، فى حين تتمسك بقواعد العملية الديمقراطية، وإن بدا بها ما يعوق مجابهة التحديات والمخاطر، إلا أن الدرس التاريخى المقارن يفيد أنها الأساس الصحيح لبناء دولة ديمقراطية حديثة. وحيث لا دعم لنظام ثورى بقناعات «قديمة، لا اقتصاد يسبق السياسة، ولا استقرار يبدد المكتسبات الثورية، ولا ديمقراطية بغير ديمقراطيين. تلك هى الإشكاليات الحقيقية للدولة المصرية.