لماذا يقول الرب للشعب بوضوح: "أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. 7مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ صَانِعُ \لسَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ" (إش45: 6 و7). شكرًا قلبيًا لكل من شارك، وأقول الصدق إن كل مشاركاتكم قيمة جدًا جدًا ليبارككم الرب ويزيدكم من كل معرفة وفهم روحي. وللإجابة على هذا السؤال أقول: لكي نعرف لماذا يعلن الرب صراحة هنا أنه خالق الشر، علينا أن نعرف أولًا: متى قال الرب هذه الكلمات؟ ولمن؟ وما هي الخلفية التاريخية؟ وما معنى كلمة "الشر" هنا؟ وما المقصود بها؟ أولًا: يجب أن ندرك أن كل الكتاب المقدس يعلن لنا أن الله صالح، وقد وردت عبارة "الرب صالح" عشرات المرات في الكتاب المقدس. لقد هتف المرنم أكثر من مرة: "اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ" (مز106: 1). وأضاف في مزمور آخر "الرَّبُّ صَالِحٌ لِلْكُلِّ" (145: 9). إن الله كلي الصلاح والحب والحكمة والرحمة، لذلك فكل ما يخطط له ويفعله ويأمر به ويرضى عَنْهُ صالح. وفي الحقيقة لا يوجد من هو صالح بلا حدود إلا الله (مر10: 18). وكل عطايا الله صالحة كما يقول الرسول يعقوب: "كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ" (يع1: 17). قال زكريا "مَا أَجْوَدَهُ وَمَا أَجْمَلَهُ" (زك9: 17). وصرخ القديس أغسطينوس: "يؤلمنى إنني تأخرت كثيرًا في معرفتك أيها الجمال القديم وماتزال جديدًا". وقال تشارلس كنجلي في مرضه الأخير: "كم هو جميل الرب، كم هو جميل". ويجب أن ندرك أن الشر لا يتفق مع طبيعة صلاح الله، لذلك يقول الرسول يعقوب: "لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، لأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا" (يع13:1). ثانيًا: الدارس لكلمة الله يجد أن هذه الكلمات جاءت على لسان إشعياء النبي الذي عاش في القرن الثامن وبداية السابع قبل الميلاد، وكانت موجهة إلى الشعب أثناء السبي وقت أن كانت المملكة الفارسية متسيِّدة على كل العالم بقيادة الملك كورش، ويظهر هذا في الآيات الأولى من هذا الأصحاح إذ يقول: "هَكَذَا يَقُولُ \لرَّبُّ لِمَسِيحِهِ لِكُورَشَ الذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا وَأَحْقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ. لأَفْتَحَ أَمَامَهُ \لْمِصْرَاعَيْنِ وَ\لأَبْوَابُ لاَ تُغْلَقُ: 2«أَنَا أَسِيرُ قُدَّامَكَ وَالْهِضَابَ أُمَهِّدُ. أُكَسِّرُ مِصْرَاعَيِ النُّحَاسِ وَمَغَالِيقَ الْحَدِيدِ أَقْصِفُ" (إش45: 1-2). وكان القصد هو التأكيد على ثلاثة أمور هامة وهى: 1 وحدانية الله 2 سيادة الله 3 بر الله. أولًا وحدانية الله: مفتاح فهم هذه الآية نجده في الآية السابقة لها حيث يقول الرب: "أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلَهَ سِوَايَ" (عدد 5). والدارس المدقق يجد أن عبارة "أَنَا الرَّبُّ" ومترادفاتها ترد في هذا الأصحاح أكثر من 15 مرة، والسبب هو أن الشعب الفارسي كان يعبد إلهين "أهورا" إله الخير، و"أهريمان" إله الشر. فهذا الشعب لم يكن يعرف الإله الواحد الحي، فجاءت رسالة التحذير هذه للشعب الإسرائيلي لئلا يسقط في هذه الوثنية، خاصة وأن الشعب كان مهيأً لذلك، فقد عبدوا من قبل مولك وعشتار وكموش والعجل الذهبي....الخ. وكان الشعب الفارسي يعبد "أهورا" إله الخير لكي يمنحه الخير، ويعبد "أهريمان" إله الشر لكي يتقي شروره. ولذلك نرى الرب يؤكد على الوحدانية في أكثر من عبارة فيقول: "أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ" (عدد 5)، "لاَ إِلَهَ سِوَايَ" (عدد 5)، "ليْسَ غَيْرِي" (عدد 6)، "أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ" (عدد 6 و18)، "أَلَيْسَ أَنَا الرَّبُّ وَلاَ إِلَهَ آخَرَ غَيْرِي؟" (عدد 21)، "لَيْسَ سِوَايَ" (عدد 21)، "أَنَا اللَّهُ وَلَيْسَ آخَرَ" (عدد 22). لقد أراد الله أن يعلن لهم أنه لا يوجد إله للخير وإله للشر، فلا يوجد إله سواه، مسيطر على كل الكون وكل ما يحدث فيه من خير ومن شر، ولا يوجد شئ يحدث بعيدًا عن دائرة سلطانه. ثانيًا سيادة الله: عندما كان الشعب في السبي راودتهم فكرة ضعف يهوه أمام آلهة الكلدانيين، فهو لم يقدر أن ينقذهم من أيدي الأمم المجاورة لهم، وتركهم يؤخَذون إلى السبي، ولذلك بدءوا يتجهون إلى عبادة تلك الآلهة الغريبة، لذلك كانت المهمة شاقة أمام إشعياء حتى يصحح مفاهيم الشعب ويعلن لهم أنه حتى وإن كان الله قد ترك يهوذا للسبي في بلاد بعيدة إلا أنه هو الإله الوحيد الذي لا يوجد غيره المتسلط على الكون، وهذا ما نجده في القرينة الأكبر (إش40: 17، 22، 41: 2، 43: 16، 44: 6، 46: 9). فهو الخالق (40: 25، 45: 18) وهو الذي يعطي نسمة لكل الساكنين على كل الأرض (42: 5)، وهو الذي يجب أن تجثو له كل ركبة، ويحلف به كل لسان (45: 23) ويوضح لهم الفرق بين الإله الحي وآلهة الأمم فيقول لهم: "فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَ اللَّهَ وَأَيَّ شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ؟ 19اَلصَّنَمُ يَسْبِكُهُ الصَّانِعُ وَالصَّائِغُ يُغَشِّيهِ بِذَهَبٍ وَيَصُوغُ سَلاَسِلَ فِضَّةٍ. 20الْفَقِيرُ عَنِ \لتَّقْدِمَةِ يَنْتَخِبُ خَشَبًا لاَ يُسَوِّسُ يَطْلُبُ لَهُ صَانِعًا مَاهِرًا لِيَنْصُبَ صَنَمًا لاَ يَتَزَعْزَعُ! 21أَلاَ تَعْلَمُونَ؟ أَلاَ تَسْمَعُونَ؟ أَلَمْ تُخْبَرُوا مِنَ الْبَدَاءَةِ؟ أَلَمْ تَفْهَمُوا مِنْ أَسَاسَاتِ \لأَرْضِ؟ 22الْجَالِسُ عَلَى كُرَةِ \لأَرْضِ وَسُكَّانُهَا كَالْجُنْدُبِ. الَّذِي يَنْشُرُ \لسَّمَاوَاتِ كَسَرَادِقَ وَيَبْسُطُهَا كَخَيْمَةٍ لِلسَّكَنِ. 23الَّذِي يَجْعَلُ الْعُظَمَاءَ لاَ شَيْئًا وَيُصَيِّرُ قُضَاةَ الأَرْضِ كَالْبَاطِلِ" (إش40: 18-19) راجع أيضًا (46: 5 -7). فكيف يشبهون الإله الحي بهذه الأحجار المنحوتة، أو الأخشاب المصنوعة في أشكال متنوعة، التي يظنها الناس آلهة؟ وأعلن لهم أنه هو الله الذي يخبر بالمستقبل (45: 11) فهل تستطيع الآلهة الأخرى أن تفعل ذلك؟ بالطبع لا تستطيع قطعة الخشب أو الحجر أن تفعل ذلك! والإخبار بالمستقبل ليس من قبيل التخمين أو الاستنتاج بل هو حقيقة لابد أن تقع، لسبب واحد بسيط هو أنه هو بنفسه الذي رتَّب هذا المستقبل وصنعه، فهو إله المستقبل كما أنه إله الحاضر والماضي. إنه سيد التاريخ ومحرِّك الأحداث صانع السلام وخالق الشر مصور النور وخالق الظلمة، فلا يوجد حدث يتم بصورة عشوائية أو خارج دائرة سلطانه. 3 بر الله: كانت صرخة الشعب وهو في السبي: «قَدِ \خْتَفَتْ طَرِيقِي عَنِ الرَّبِّ وَفَاتَ حَقِّي إِلَهِي» (إش40: 27). ولذلك يتحدث النبي هنا عن بر الله الذي يتجلى في خلاصه، وهو ليس برًا سلبيًا بل برًا إيجابيًا يخلص ويفدي (41: 10)، وهذا الخلاص قد يقتضي التأديب والعقاب. ولكن الشعب لم يفهم هذا، فقد كان "الشر" من وجهة نظر الشعب في ذلك الوقت هو "السبي"، ولكن هنا يعلن الله أنه هو صانع هذا الشر، فهو الذي أرسلهم إلى السبي تأديبًا لهم، وقد قال لهم بوضوح: "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هَئَنَذَا جَالِبٌ شَرًّا عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَعَلَى سُكَّانِهِ جَمِيعَ اللَّعَنَاتِ الْمَكْتُوبَةِ فِي السِّفْرِ الَّذِي قَرَأُوهُ أَمَامَ مَلِكِ يَهُوذَا" (2أخ24:34). وقال لهم على لسان إرميا بوضوح: "اسْمَعُوا كَلِمَةَ لرَّبِّ يَا مُلُوكَ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ. هَكَذَا قَالَ رَبُّ \لْجُنُودِ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: هَئَنَذَا جَالِبٌ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ شَرًّا كُلُّ مَنْ سَمِعَ بِهِ تَطِنُّ أُذُنَاهُ. 4مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ تَرَكُونِي وَأَنْكَرُوا هَذَا \لْمَوْضِعَ وَبَخَّرُوا فِيهِ لِآلِهَةٍ أُخْرَى لَمْ يَعْرِفُوهَا هُمْ وَلاَ آبَاؤُهُمْ وَلاَ مُلُوكُ يَهُوذَا وَمَلَأُوا هَذَا الْمَوْضِعَ مِنْ دَمِ \لأَزْكِيَاءِ" (إر19: 3-4). راجع أيضًا (إش10: 5- 8، حب1: 1 -11). فإن كان قد سمح لهم بالسبي فقد فعل هذا لخيرهم، وكانت عينه عليهم، وسوف يردهم، كما قال على لسان إرميا: "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: كَهَذَا التِّينِ الْجَيِّدِ هَكَذَا أَنْظُرُ إِلَى سَبْيِ يَهُوذَا الَّذِي أَرْسَلْتُهُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِلْخَيْرِ. 6وَأَجْعَلُ عَيْنَيَّ عَلَيْهِمْ لِلْخَيْرِ وَأُرْجِعُهُمْ إِلَى هَذِهِ الأَرْضِ وَأَبْنِيهِمْ وَلاَ أَهْدِمُهُمْ وَأَغْرِسُهُمْ وَلاَ أَقْلَعُهُمْ. 7وَأُعْطِيهِمْ قَلْبًا لِيَعْرِفُونِي أَنِّي أَنَا الرَّبُّ فَيَكُونُوا لِي شَعْبًا وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلَهًا لأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيَّ بِكُلِّ قَلْبِهِمْ" (إر24: 5 - 7). ويؤكد مرة أخرى على لسان إرميا أنه إن كان قد سمح بالشر "الذي هو السبي" فإنه سيجلب عليهم الخير "الذي هو العودة من السبي" فيقول: "لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ. كَمَا جَلَبْتُ عَلَى هَذَا الشَّعْبِ كُلَّ هَذَا الشَّرِّ الْعَظِيمِ هَكَذَا أَجْلِبُ أَنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ الْخَيْرِ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ إِلَيْهِمْ" (إر42:32). فبر الله الذي يتجلى في خلاصه قد يقتضي التأديب، وهكذا فعل مع شعبه وأرسلهم إلى السبي، ولكنه لا يتوقف عند هذا الحد بل يتقدم إلى خلاصهم، لذلك نراه يقيم كورش ويمسك بيمينه، ويفتح أمامه المصراعين، ويمهد الهضاب ويعطيه انتصارًا على كل الممالك المجاورة، ويقول بوضوح: "أَنَا قَدْ أَنْهَضْتُهُ بِالنَّصْرِ وَكُلَّ طُرُقِهِ أُسَهِّلُ. هُوَ يَبْنِي مَدِينَتِي وَيُطْلِقُ سَبْيِي" (إش45: 13). (قارن عز1: 1- 5، إش45: 1 -4). فهنا يعلن الله لهم بوضوح أن ما يظنونه "شرًا" لم يخرج عن دائرة سلطانه، فهو الذي أرسلهم إلى السبي وهو سيخلصهم منه. إن هذه الآية تعلن بوضوح للشعب الذي يعيش في السبي متألمًا ومهددًا بخطرٍ السقوط في الوثنية، إن الله واحد ولا يوجد غيره، وهو المتحكم في كل شئ، وما نظنه شرًا يستخدمه الله لخيرنا.