أولمبيا.. تعرفين أنني أكره الصيف تمامًا، لا لشيء غير أن نوبات الصداع النصفي تزداد في هذا الفصل بالذات، في الحقيقة أنا لا أكره الصيف -فأنا أحب كل فصول الله- لكن أكره ما يسببه لي من ألم، لا أعرف لماذا في هذه اللحظة بالذات لعنتُ الشتاء الذي أحبه كثيرًا، فهو على الأقل لا يتسبب في أي ألم عدا أمراضه الشائعة. هذا الشتاء قارس جدًّا، ولا شيء يُزيد من قسوته إلا الوحدة، وأنا أعرف أنكِ اختبرتِ هذا الشعور وتقدرينه لأنك عشتِ سنوات طويلة بمفردك. الطقس هنا سيئ جدًّا الآن، وأعرف أن البرودة في بلادك تفوق ما هنا من برودة، لكن ليس لي جَلدكِ يا أولمبيا. أنا ابن الشتاء الذي أحببته كثيرًا، ففي إحدى زيارته الخاطفة أصابتني هلوسات غريبة من أعراضها، اعتقادي الراسخ بأني سأصير يومًا ما شخصًا مهمًّا ولو على الأقل عند شخص واحد.. أنتِ يا أولمبيا. أبناء الشتاء، ليس لهم حظ في الحب، محرومون من (الونس)، مريضون بالاكتئاب والهشاشة، ميالون للعزلة، ومندفعون بالقدر نفسه بين الجموع، شديدو الوسامة والقبح في آن واحد، محبوبون ومنبوذون في الوقت نفسه، يحبون ويكرهون في اللحظة ذاتها، دمثون حتى النهاية لكنهم لا يبرأون من الجُرح. لعنت الشتاء لأنني عرفت فيه طعم الوحدة.. لعنت الشتاء لأنني ولدتُ فيه.. وهذا حدث لم يكن أبدًا جالبًا للسعادة. الحياة يا أولمبيا حملٌ ثقيلٌ، أنت مضطر فيها أن تلتقط أنفاسك المقطوعة أصلا لتواصل السير بين هؤلاء المصابين باللهاث. العالم باردٌ جدًّا، فعلى الرغم من اكتشاف البخار والوقود والكهرباء لكن العالم لا يزال باردًا، حتى شمس الله لم تستطع أن تفعل شيئًا أمام الذين أتلفهم الصقيع. الله يا أولمبيا ضجَّ من هذا الجنون، لم يكن يعرف أن صلصاله المغرق في الليونة سيتيبس إلى هذه الدرجة المخيفة، الله صرخ في البرية لكن لم تصل كلماته.. تمامًا كما أصرخ فيكِ ولا تردين.. أنت مثال واضح لعصيان الإنسان للكلمات. قال الله إنه يعشق كل جميل لماذا لم تعشقيني؟ هل هناك أجمل ممن يعشقك يا ساذجة؟! أولمبيا.. تخيلي أن ثلاثة من الضواري ينهشونك في آن واحد وأنتِ الرقيقة والهشة التي حلمتُ بها منذ أن عرف الولد الذي كنته كيف يدق قلبه. أقول لك عن الضواري الثلاثة: البرد ينهشني، والوحدة تضرب جدار الروح، والفقد يفتت عظامي؛ البرد حدثتك عنه، والوحدة لأنك لست هنا، أما الفقد فهو أمر آخر. في الشتاء الماضي فقدتُ والدي، فصرت كالبيت بلا سقف، توحله الأمطار، وتنعق فيه الغربان، عام كامل يا أولمبيا لم تنبت في هذا البيت وردة! لن أحدثك عن المحنة، فقد حدثتك عنها من قبل. وأنا هنا لا لأكتب لك عن هذا الطقس السيئ، ولا لأحدثك عن الوحدة فأنتِ تعرفين هذا الشعور وتقدرينه جيدًّا لكن ما أريد أن أحدثك عنه هو الفقد.. فقد والدي يا أولمبيا. لقد حاولت كثيرًا أن أكتب له، لكن يقيني من أنه لن يرد هو ما منعني عن السير في هذا الاتجاه، بالمناسبة أنا لست غاضبًا منه لأنه أولا: ليس من هؤلاء الذين يثيرون غضبك. ثانيًا: ربما يكون قد أصابه الملل، فقد عشتُ معه أربعين عامًا، وتحمُل الحياة مع شخص مثلي مستحيل بشكل من الأشكال، وبما أنه تَحملها كل هذه السنوات فهو في رأيي بطل، والأبطال يحق لهم أحيانًا أن يشعروا بالضجر. ثالثًا: ربما هو الآن لا يعرف لغتي، أو ربما أنهتكه الكلمات، والإشارات، والكتابة، فأستظل بالصمت الأبدي. رابعًا: ربما ليس لديه الوقت ليسمعني فقد يكون مشغولا بمواساة المهجورين، والوحيدين، والذين ليس لديهم أولاد طيبون يذكرونهم بخير عند حبيباتهم. أنا لست غاضبًا منه، يا أولمبيا.. أنا غاضب منك، ومن الطقس السيئ، ومن الكلمات العاجزات عن وصف فرحي بالأمل في وصول رسالتك قريبًا.