قلت لنفسي، يا ولد، الفلس ليس عيباً، ورحت أتذكر أن الملكة نازلي نفسها أم الملك فاروق عانت في أمريكا شظف العيش، حتي أنها- يا ولداه- اضطرت إلي الخدمة في البيوت، من أجل لقمة العيش، قررت أن أرتب لنفسي جدولاً أسير عليه، الغداء كشري عدة أيام في الأسبوع، ولو دخلت مطعم الكشري لا أطلب تلك الإضافات التي أطلبها أيام الرفاهية، لا صلصة زيادة ولا تقلية ولا أرز باللبن، وقررت أن أنزل بمعدل تدخيني إلي عشر سجائر فقط في اليوم، وتذكرت أن مصطفي أمين الصحفي كان يدخن مائة وعشرين سيجارة في اليوم الواحد، بينما كان يدخن جمال عبدالناصر ستين سيجارة في اليوم.. مصمصت شفاهي وتذكرت أيام عزي عندما كنت أدخن قرابة المائة سيجارة في اليوم، ثم وأنا أسير في الطريق شفت مجموعة من المصريين جالسين علي قارعة الطريق، وفكرت أنهم يبدون كما لو أنهم جميعاً مرضي كبد وسرطان، كان البرد يلفح أذني، وكنت وحيداً تماماً أكاد أن أصرخ في الشارع، جوعان أنا يا رمسيس، هل أنا في ميدان رمسيس، أم ميدان العتبة، تتشابه معظم الميادين في تلك المدينة الموحشة، وتذكرت أنني فعلاً أفتقد ذلك الدفء الذي كان في بيت أبي، إن غرفتي تلك في بيت أبي التي كبرت فيها، ونشأت، هي المكان الوحيد في مصر كلها الذي كنت أشعر فيه دوماً بالأمان والدفء. أشعلت سيجارة ودفست يدي في جيب السترة التي أرتديها، ورحت أحجل في الطريق مثل فرقع لوز، وأحاول أن أستحضر في عقلي صورة هند رستم في فيلم »ابن حميدو« مع أحمد رمزي عندما سقط بها السرير وبه، أحب أنا هذه اللقطة، وأحب معظم فساتين هند رستم في كل أفلامها القديمة، في الطريق عبرت سيارة اسعاف مكتوب عليها من الخلف »هدية من اليابان لشعب مصر، حاولت أن أتذكر اسم الكاتب الياباني الذي انتحر عام 0791، فشلت في تذكر اسمه، لكنني تذكرت ماوتسي تونج، وثورته الثقافية، فكرت أن مصر تحتاج ثورة ثقافية مماثلة، وكان البرد شديداً، فصعدت فوق الرصيف، كأنني أبحث عن الدفء في ملامسة أكتاف العابرين، كانت النساء تبدو جميلات في الشارع، معظمهن يرتدين سترات وملابس سوداء، إن اللون الأسود في الشتاء هو السمة الغالبة، أحب أنا اللون الأسود، وفكرت أنني فعلاً لا يعجبني لون علم مصر، وتوقفت أمام مقلاة لب، وتمنيت لو أنني اشتريت بعض المكسرات، لكنني رحت أقمع شهوتي وقلت يا ولد، تابع المسير نحو هدفك الأساسي، فقد كنت متوجهاً إلي مطعم الفول والطعمية ذلك كي أشتري بعض الفول وبعض الطعمية الساخنة، وقلت إنني لما يكرمني الله بالثروة سوف أشتري مطعم فول وطعمية، وسوف أقدم للشعب المصري وجبات مجانية في الشهر الأول من الافتتاح. وشعرت كما لو أن ناموسة قد دخلت في حلقي، وأنا ماشي في الطريق، لم أكن متأكداً تماماً، إذ أنني أعرف أنه لا وجود حقيقي للناموس في الشتاء، أو ربما في عقلي تتراكم أفكار قديمة عن أن الناموس يكثر فقط في الصيف، ولما مررت بمحل ملابس كبير وتوقفت أمام إحدي البذلات الشيك، شفتني وأنا طفل ألعب الكرة مع أصحابي، وقد عرقل صاحبي صاحبي الآخر، وتعاركا، فكان من صاحبي الحقير أن قال لصاحبي اليتيم: »يا ابن الكلب يا اللي أمك ولّعت في أبوك«، وكان صاحبي قد وجدوا أباه محروقاً في الصباح، وقيل بعدها إنها أمه من أشعلت فيه النار، ويومها قالت لي أمي: اذهب وأت بصديقك ليعيش معنا أياماً، وتذكرت أنني ظللت طيلة عمري أكره صاحبي الحقير هذا، كما أنني لم أر صاحبي اليتيم منذ سنوات كثيرة، وتخيلت أنني أري دخاناً يتصاعد من تلك البذلة الشيك، وقلت لنفسي إنني أصلاً لا أحب ارتداء البذلات، وشعرت أنني فقط أحاول إقناع نفسي بألا أبتئس، وأن أخليها علي الله، ثم أنني تعجبت من صاحب محل فول وطعمية ويجلس هناك مرتدياً بذلة كاملة، إن هذا لا يليق. وصلت إلي عربة الفول التي أقصدها، كان نفس الشاب الذي يقلي الطعمية كل مرة، وقد تجمهرت حفنة من المصريين حوله، وطلبت بنصف جنيه فول مع التحبيشة، وضعها لي في كيس بلاستيكي، واقتربت من طاسة قلي الطعمية التي تحلق حولها الجميع، وما أن اقتربت منها حتي شعرت بالدفء الكامل، ورحت أتذكر أيام طفولتي وكيف كنت أعشق وشيش وابور الجاز، وصوت الغسالة معاً، كانت أجمل أيام طفولتي عندما تغسل أمي ملابسنا، أقض معظم الوقت قريباً منها ما بين المطبخ والحمام، وأقول لها، أساعدك، وتنهرني هي، وأنا أختلق الأسباب كي أبقي قريباً من صوت وشيش وابور الجاز، وأروح أمسك عصا الغليّة، وأقلبها في الملابس البيضاء الموضوعة في ذلك الطست المعدني الكبير فوق الوابور، وأمرح وأنا أشهد تلك الفقاقيع البيضاء التي تتصاعد مع بخار الماء، وكيف ينتابني ضيق لما تغلق أمي الغسالة- بين كل فمين غسيل- وأسألها: هتحطي فم تاني؟! إن طست الطعمية هذا الكبير يذكرني بكل ذلك. ويفرغ الشاب كميات من الزيت في الطست، ثم يلقي برذاذ ماء يتطاير من يديه في الطست، فتتصاعد منه نار، ويبتسم الجميع مبتعدين عن النار، ويعلِّق أحدهم قائلاً: ده زيت تموين أكيد، ويرد آخر: طبعاً زيت تموين، وأتذكر أنا مرة ثانية أيام العمل مع جدي في رمضان، فرن عمل الكنافة، قبل اختراع الفرن الآلي، وكيف كنا أنا وأخوالي ننهمك في عمل عجينة الكنافة، وكنت مسئولاً أنا عن مهمة واحدة هي ملء تلك الغسالات الكبيرة بالدقيق والماء، وفتحها ومراقبتها وقتاً يطول أو يقصر، حتي ينضج الخليط، عندما مات جدي قابلت خالي، وسألته لم لا يعود لعمل كنافة في رمضان، ويتمتم خالي في ضيق: خلاص مش جايب همه. أنظر إلي طاسة الطعمية، وأفكر إن كنا نحن البشر سوف نلقي في جهنم، مثل عجينة طعمية، مثل تلك التي يكوّرها الفتي ويلقيها لتحمر في الطاسة، تضحكني الفكرة، وأبص علي الجميع من الواقفين، لابد أنهم قد أتوا من أماكن بعيدة، شهرة هذا المطعم- العربة- لا حدود لها، من المؤكد أنهم تعودوا علي الشراء من هنا، ومن هنا فقط، وقفتي بجوار موقد النار ريحتني من ذلك الوجع الذي كان في كل مفاصلي جراء البرد، فاجأتني فكرة أنني فعلاً الآن تعودت أن أجيء إلي هنا كل مساء، أقف بجوار الطست الساخن، حتي أنني مرات أكون لست جائعاً فيها، لكنني أمشي حتي هنا، حتي أنني حفظت وجوه البعض من المترددين علي المكان، بعض النساء منهم وبعض الرجال، يبدو عامل قلي الطعمية شاباً قوي الشكيمة، علي وجهه الأسمر تبدو وسامة، فكرت لو أن تعرضه ساعات طويلة لمدي النيران ربما يؤثر نوعاً ما علي صحته، لكنني شفته عريض المنكبين ويبدو صحيح البدن معافي في أهله وسربه، من المؤكد أنه لو هنا مظاهرة قريبة من حقل الطعمية لن يسأل الشرطي هؤلاء الناس ماذا يفعلون هنا، إنه ولابد مكان آمن، دفء وأمان، ماذا يريد المرء غير ذلك، كما أنها وجبة رخيصة، ولذيذة، ويحبها الجميع. ليس شرطاً أن تكون فقيراً ومعدماً مثلي كي تحب الفول والطعمية، قرأت مرة أن زعيماً عربياً كان يضع معارضيه في أحواض بها حمض كبريتيك مركز، تخيلت أن المنظر كان مثل ذلك، غريب جداً أن يصل فن التشفي والسادية إلي هذا الحد عند الزعماء العرب، من المؤكد أنهم لا يأكلون طعمية، لم يكن حجم الجاهز من الطعمية كل مرة علي قدر حاجة الجميع، فاضطررت لانتظار دوري، ولم أشعر بملل أو ضجر، ورحت أشاهد البسمة علي وجه كل من يحصل علي نصيبه ويمضي في سعادة، حتي أنني لم أكن بحاجة كي أدفس يدي في جيب سترتي، وحاولت أن أفكر إن كانت أمي في هذه اللحظة دفيانة مثلما أنا دفيان الآن، ويبدو أن دوري قد حان، وسمعت الولد وهو يشخط فيّ لأنني نسيت طيلة الوقت أن أحصل علي قرطاس كي أضع فيه ثمار الطعمية المقلية، ووجدته يقذف لي في يدي الطعميات الملتهبة مثل كرات لهب مشتعلة، وأسعفني أحد الواقفين جنبي بقرطاسه، فشعرت بالامتنان. رتبت أقراص الطعمية في القرطاس، وتلكأت في مغادرة المكان، ثم مضيت بعدما شعرت أن وقوفي الطويل لم يعد هناك من داع له، ورحت أسير في الطريق عائداً إلي محل سكني، وكان الدفء يخرج مني، وتطاردني من جديد لعنات البرد.