عندما تصاعدت الصراعات بين هيكل ومبارك في السنوات الأخيرة التي سبقت ثورة 25 يناير، ظهر عماد الدين أديب بتخريجة لسبب الخلاف؛ أن هيكل غاضب من مبارك جدًا، لأنه طلب منه مبكرًا أن يكون مستشارًا سياسيًا له، لكن الرئيس رفض، ولذلك فالأستاذ يتعامل بحقد شديد ويعمل بدأب على الإساءة للنظام وكل من يعمل معه وله. لم يبادر هيكل بالرد، انتظر من يسأله، وعندما جاءته الفرصة قال: لم أطلب من مبارك أن أكون مستشارًا له، لأنه ليس لدىّ أي وقت لذلك. أعتقد أن كلام عماد الدين أديب لم يكن دقيقا إلى درجة كبيرة، فما جرى على الأرض أن هيكل حاول أكثر من مرة أن يقترب من مبارك، لكنه وجد الطريق مغلقا، ولعل دراويش هيكل يذكرون سلسلة الحوارات التي أجراها مع جريدة أخبار اليوم في العام 1986 تمهيدا لعودته للكتابة مرة أخرى. في هذه الحوارات أثنى هيكل على مبارك، وفى الحلقة الثانية التي نشرت تحديدا في 4 يناير 1986، قال نصا: «لعلى أقول إننى أعطى للرئيس مبارك كثيرا من الفضل، ولكن علينا أن نحدد بالضبط موجبات الاعتراف بالفضل». ويعدد هيكل أفضال مبارك – والكلام له في الآتى: ■ لصالح مبارك أولا أنه أتى إلى الحكم في لحظة مفعمة بالقلق وكان محتفظًا بتوازنه. ■ ولصالح الرئيس مبارك ثانيا أنه قدم نفسه للناس بطريقة طبيعية وهادئة، في حين أن المناخ السائد حوله في ذلك الوقت كان استثنائيًا وعصيبًا. ■ ولصالح الرئيس مبارك ثالثا أنه دخل مكتبه ودرجة الحرارة في مصر قرب درجة الغليان، فإذا هو يستطيع بجهد لا شك في إخلاصه، تخفيض درجة الحرارة إلى درجة شبه عادية. ■ ولصالح الرئيس مبارك رابعًا أنه لم يحاول اعتراض طريق التطور الطبيعى لحركة القوى الاجتماعية في مصر بطريقة خشنة أو عنيفة. ■ ولصالح الرئيس مبارك خامسا أنه مارس مهنته بالحذر المهنى المكتسب من تجربته الطويلة السابقة على دخوله معترك السياسة، ومن هنا كانت الأولوية التي أعطاها لعنصر السلامة والأمان، وكان مثل ذلك الحذر ضروريا في الظروف التي تحمل بها أعباء مسئوليته. بعد هذا الحوار كتب هيكل ثلاثة مقالات، توقف بعدها، لقد حاول أن يقدم نفسه بطريقة جديدة إلى الرئيس مبارك، لكنه رفض تماما أن تكون هناك أي مساحة من التقارب بينهما. كان لدى مبارك رأى واضح ومحدد في هيكل، نقله عنه مستشاره السياسي أسامة الباز، كان الرئيس الأسبق يرى أن هيكل لا يعمل إلا لنفسه فقط، وأنه مستشار غير أمين، كما أنه يخون من يحسنون إليه، وكان يستشهد دائما بما فعله هيكل مع السادات، فلأنه أخرجه من الأهرام، أساء إليه إساءة بالغة، وكان مبارك يقصد كتاب الأستاذ الأسود «خريف السادات». للموضوعية والإنصاف لا أعرف على وجه اليقين، كيف ينظر عبدالفتاح السيسى لهيكل، لقد قرأ كل ما كتبه على حد ما قاله هو، لكننا لا نستطيع أن نتجاهل نظرة العسكريين، وتحديدا الأجيال الجديدة منهم، لما يكتبه هيكل عن معارك الجيش المصرى، فهو ليس منصفا لهم، كما أنه يكتب عما جرى بغير الحقيقة، بما ينتقص أحيانا من إنجاز الجيش، ولذلك تجد رأيا سلبيا لدى معظم القادة العسكريين فيما كتبه هيكل. هناك خيط يمكن أن نمسك به جيدا، أعرف أن عبدالفتاح السيسى من المعجبين الكبار بالمشير محمد عبدالحليم أبوغزالة، يقدر له مكانته العسكرية والإستراتيجية وفكره وسماته الشخصية، ومن بين ما كان يعرفه عن أبوغزالة أنه لا يحمل تقديرا لهيكل، لأن أبوغزالة لم يمكن هيكل من تحويله إلى مصدر من مصادره، كان يرفض الجلوس إليه والحديث معه، لأنه كان يعرف أنه ليس منصفا تماما. على جناح التحليل يمكن أن أجزم بأن السيسى لا يطمئن لما يقوله هيكل، وقد يكون هذا هو سر الجفوة السياسية بينهما، فهيكل فعليا لا يلعب دورا مباشرا على الإطلاق في مسيرة السيسى السياسية، فهو ليس مستشاره ولا مرشده ولا ناصحه. البعد السياسي بين هيكل والسيسى أدى إلى أن يكون هناك بعد نفسى بينهما، ولذلك لم يكن غريبا تفسير ما حدث من الأستاذ خلال الانتخابات الرئاسية، كان سكان عمارة الجيزة التي يوجد فيها مكتب هيكل، قد علقوا صورة كبيرة للمرشح الرئاسى على مدخل العمارة، نزل هيكل من سيارته، ففوجئ بالصورة في وجهه، فطلب من سائقه أن يزيل الصورة، وعندما عرف سكان العمارة بما جرى أعادوا الصورة مرة أخرى، وعاتبوه بعنف، رافضين سلوكه، دون أن يعرفوا تقريبا الأسباب التي دفعته إلى هذا السلوك الغريب. يمكن أن يتاجر هيكل ببعض لقاءات ومكالمات جرت بينه وبين السيسى قبل أن يصل إلى كرسى الرئاسة، لكن من الصعب أن يفعل الشىء نفسه بعد أن وصل السيسى إلى قصر الاتحادية، فمنذ أن أصبح السيسى رئيسا لم تحدث مقابلات بينهما، ولم يدع هيكل إلى الاجتماعات التي أجراها السيسى مع الإعلاميين والكتاب والمثقفين، ويمكن أن تقول إن هيكل حتما سيرفض أن يجلس إلى جوار إعلاميين آخرين، وساعتها سأقول لك، إنه حتى لم يدع بشكل منفرد إلى لقاء مع الرئيس، رغم مرور أكثر من عام ونصف على رئاسة السيسى، والمعنى الوحيد الذي يمكن أن نخرج به من ذلك، أن السيسى فعليا ليس في حاجة إلى أن يستمع من هيكل. ولعل هذا هو ما جعل هيكل يلجأ إلى أن يبث نصائحه عبر التليفزيون، فهو في حديث ممتد مع لميس الحديدى، عبر برنامجه «مصر أين.. وإلى أين؟»... ومن حقى هنا أن أقول إن هيكل ما كان له أن يلجأ إلى أن يوجه النصح علنا للرئيس عبر التليفزيون، إلا لأن القنوات المباشرة بينهما قد سدت تماما. ■ ■ ■ من بين ما يميز هيكل أنه طوال الوقت رجل معلومات، ولا يزال الصحفيون المصريون يستشهدون بما حدث في مؤتمر باندونج في العام 1955، عندما دخل الصحفيون عليه وهو يجلس مع عبدالناصر، فتوجهوا إلى الرئيس غاضبين، لأنه يخص هيكل دونهم بأخبار وأسرار وكواليس ما يحدث في المؤتمر، فرد عليهم عبدالناصر – ربما ساخرا – أن هيكل هو الذي يمده بالأخبار. واصل هيكل منهجه وهو أن يكون مصدرا للأخبار طوال الوقت، وأذكر أننى عندما كنت أجلس معه في حديقة بيته الريفى ببرقاش، أن أحد معاونيه كان يقطع حديثنا كل ربع ساعة، يعطيه ورقة ينظر فيها، ثم يحدد بقلمه على بعض العناصر بها. سألته عما يحدث، فقال ببساطة، إن معاونه يأتيه كل ربع ساعة بآخر الأخبار والمعلومات التي تبثها وكالات العالم، ليكون على علم بكل ما يجرى في العالم وهو جالس في حديقته، وربما يفعل هيكل هذا حتى الآن، خاصة أنه لا يتعامل مع شبكة الإنترنت ووسائط الأخبار المتعددة التي تمكنه من أن يعرف كل ما يحدث في العالم دون أن يحتاج إلى معاونين. قبل سنوات كان هيكل يعرف، ربما أكثر مما ينبغى، ما يدور في دوائر صنع القرار المصرية، لكنه الآن لا يمتلك المصادر الكافية ليعرف بشكل كاف ما يحدث، بل لا أبالغ عندما أقول إنه يعرف ما يحدث مثله مثل أي قارئ للأخبار ومتابع للأحداث، ولذلك فقد الأستاذ كثيرا من قدرته على التحليل الصحيح. التحليل الذي لا يقوم على معلومات أوقع هيكل في مأزق، فقد فوجئ متابعو هيكل ببيان تنشره شبكة قنوات سي بي سي عن حلقة «مصر أين وإلى أين؟» التي كان مقررا إذاعتها في 27 مارس 2015، وتعلن من خلاله تأجيل الحلقة التي تم تسجيلها، بسبب الأحداث في اليمن والأحداث العسكرية بواسطة عشر دول عربية ضمنها مصر، التي أعلنت أنها سوف تشارك في القتال بقوات جوية وبحرية وبرية إذا اقتضى الأمر. قالت سي بي سي في بيانها إن هذه الطوارئ سبقت كل الترتيبات، وأولها مؤتمر القمة العربية ذاته، فقد كان المتصور أن يكون التدخل العسكري لاحقا للقمة، ونتيجة لقراراتها، خصوصا أن أهم البنود الواردة في جدول أعمالها كان بند إنشاء قوة عربية مشتركة، ومعنى بداية العمليات قبل القمة أن عشر دول عربية قررت أنها لا تستطيع الانتظار ساعات، وتصرفت دون انتظار غطاء سياسي جامع يغطى هذا التصرف باعتباره إرادة عربية موحدة. ويقول البيان إن هناك ظروفا إضافية تزكى أفضلية تأجيل بث الحوار، أهمها أن التسجيل تم مبكرًا عن العادة، وقبل موعد البث بثلاثة أيام، وكان ذلك لاعتبارات فنية وعملية، دعا إليها أن شبكة سي بي سي كانت تنقل الكثير من إمكانياتها إلى شرم الشيخ حيث مؤتمر القمة، ومن ثم فإن التبكير بتسجيل الحوار مع تطور الأحداث أحدث تغييرا كبيرا في أولويات الاهتمام العام بخصوص الشأن الجارى ومفاجآته. ويختتم البيان ما أراد أن يقوله ب: «والآن فإن ما جرى لم يعد مجرد احتمالات، وإنما أصبح أمرا واقعا تشارك فيه جيوش عربية، ضمنها قوات مصرية من الجو والبحر والبر إذا لزم الأمر، وعندما تكون هناك جيوش عربية في طليعتها قوات مصرية فإن دماء المقاتلين لها حرمة تفوق حرمة أي كلام، وهكذا تنتظر حلقة الحوار احتراما لمعان كثيرة وتقديرا لاعتباراتها إلى جانب اختلاف جدول الأولويات». كتب هيكل هذا البيان بنفسه، رائحته تبدو منه بشكل واضح، وأنفاسه تلاحقك وأنت تسير بين سطوره، ولم يكن السبب الذي ذكره هو حقيقيا، فهو لم يؤجل الحلقة احتراما لدماء المقاتلين، ولكن لأن الأستاذ في الحلقة قال كلاما تجاوزه الواقع تماما، ولم يكن قادرا على قراءة المشهد. توقع أنه لن تكون هناك مواجهة، ولن تقوم حرب، ولما قامت، بدا أنه خارج الصورة وخارج الإطار، وبدلا من أن يعترف بذلك، كتب بيانا صال وجال فيه، حتى يحافظ على صورته. ربما لهذا السبب تحديدا تتجاوز الإدارة السياسية في مصر الآن الكثير مما يقوله هيكل، رغم أنه يأتى منمقا ومنظما، وفى ظاهره منطقيا. أغلق السيسى الباب في وجه هيكل، فلجأ الأستاذ إلى الشاشة ليتحدث من خلالها، موجها نصائحه إلى الرئيس، ومتحدثا بلسانه، وعارضا عليه أفكاره، مطالبا إياه بأن يقوم بتتفيذها، ولما تم تجاهله بشكل كامل، تحول التحليل الذي من المفروض أن يكون سياسيا ومنطقيا وقائما على معلومات، إلى ما يشبه كيد النساء، فلا يتحدث هيكل في أي مرة إلا ويوجه نقدا للسيسى. وإذا أردت أن تتأكد من ذلك، فليس عليك إلا أن تراجع بعضا مما قاله في حلقاته الممتدة، والتي يبدو أنها لن تنتهى قريبا. يقول هيكل: هناك قرارات تصدر من السيسى لا نعرف مبرراتها، وإذا كان هناك تفسير لها فهو غير كامل، فأنا أعيش في حالة من الألغاز والغموض بسبب ذلك. على الرئيس أن يضع تصورًا ورؤية للمستقبل القريب والبعيد أمام الشعب، أما موضوع يوم بيومه ده ما ينفعش. لابد ألا تنظر السلطة للشعب باعتبارها فوقه، فهذا اعتقاد خاطئ، لأن الناس هم من يصنعون السلطة وليس العكس. ما يقلقنى عزوف الشباب عن المشاركة في الحياة السياسية، ونحن لم نتحل بسعة صدر كافية لاستيعابهم، حتى حدث شبه فراق بيننا وبينهم. مصر ليست طرفا فيما يجرى في سوريا والعراق والسعودية، ومنطقة الخليج تعانى من عاصفة داخلية ومصر تبعد عنها، وتركنا ما يحدث في سوريا في الفترة الماضية دون أن نسأل أو نتدخل أو نكون طرفا في الحل. هناك فارق أن يكون السيسى موجودا كمدير للمخابرات أو وزيرا أو غيره، وأن يكون رئيسا للدولة، صحيح أنه رأى في مواقعه المختلفة مشكلات مختلفة، لكنه عندما يكون رئيسا فإنه يرى المشكلات بكاملها والمشكلات الإقليمية المرتبطة بالدولية، فحجم المتناقضات الموجودة في مصر، حجم التناقضات الموجودة في العالم العربى، وحجم التعقيدات الموجودة على الصعيد الدولى، يحتاج في محاولة الفهم إلى جهد خارق. - أظن أن السيسى استهول ما رأى، وأظن أن هذا إنسانى جدا، وكان من المفترض أن يعطى فترة سماح طويلة جدا، أو طويلة على أي حال، خاصة أنه في موقع رئاسة الجمهورية رأى الأوضاع الداخلية وعلى نطاق الإقليم، وربطها بالنطاق الدولى يجعله مصدوما وهذا إنسانى جدا. قال هيكل ويقول الكثير، لكن الرئاسة لا تتجاوب معه من أي زاوية من الزوايا، فعندما اقترح أن يزور السيسى سوريا، تحول الاقتراح إلى نكتة، وبدا منه أن الكاتب الكبير لا يعرف تعقيدات الموقف الذي تعانى منه الإدارة المصرية مما يجرى في سوريا، لم يعلق الرئيس على ذلك، ولم يخرج علينا حتى مصدر، لا مسئول ولا غير مسئول، ليفند اقتراح هيكل، فقد تعاملوا معه وكأنه لم يكن من الأساس. حاول هيكل أن يصور نفسه على أنه مستشار فعلى للرئيس، في واحدة من حلقاته قال نصا: تحدثت مع الرئيس بضرورة أن يخرج على الأمة بخطاب يشرح الوضع الراهن ويصارحهم بحقائق الأمور، كما يطرح عليهم رؤية دقيقة للمستقبل من وجهة نظره. سأصدق أن هيكل تحدث مع الرئيس، وأنه نصحه بالفعل، وقال له ما يجب أن يفعله، بل حدد له النقاط التي لابد أن يتحدث فيها مع الشعب المصرى، لكن ما هي النتيجة، لقد تحدث السيسى كثيرا، وصارح الشعب بالكثير، لكنى أعتقد أنه لم يفعل ذلك بناء على نصيحة هيكل، أو نزولا على ما طلبه، فهو لم يخصص خطابا واحدا لذلك، وهو ما يعنى أيضا أن كلام الكاتب الكبير بالنسبة للرئيس ليس إلا كلاما في الهواء. ■ ■ ■ لا يمكننى أن أزيل عن هيكل شيئا من فضله ولا من تاريخه، فهو أستاذ المهنة التي نعمل في ظلالها بلا منازع، لكننى أشير فقط إلى النقطة الساخنة التي يقف فيها الآن، فهو يحاول أن يبدو مؤثرا، والواقع يقول عكس ذلك تماما، يحاول أن يستمد بريقا من علاقة يزعمها مع الرئيس، وهو ما ليس صحيحا على الإطلاق. لقد وقع هيكل في الفخ، قال هو إن هذا ليس عصر النخبة، ولكن عصر الجماهير، ولم يكن فيما قاله جديدا، فقد سبقه إلى صك المصطلح المفكر الكبير جلال أمين، عندما وصف عصرنا بأنه عصر الجماهير الغفيرة، وبدلا من أن يتمسك هيكل بسمات النخبة التي تفكر بعقل وتتحدث بعقل وتتصرف بعقل، استسلم تماما لسمات الجماهير التي تفكر وتتحدث وتتصرف بلا أي عقل على الإطلاق.