صدر عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية العدد الثامن عشر من سلسلة "أوراق" تحت عنوان "استشراف المستقبل من منظور إسلامي" للباحث السوداني عاصم محمد حسن، المتخصص في علم الاجتماع الديني وفلسفة الدين، والمهتم بالتداخلات القيميّة للاستشراف والإستراتيجيات. تهدف هذه الدراسة إلى البحث في علاقة الدين الإسلامي باستشراف المستقبل، والذي يعتبر واحدًا من أكثر الأديان نموًا وتسارعًا على الأرض؛ فشمولية الإسلام ونظامه الفقهي واستيعابه لفطرة الإنسان يجعله دينًا ذا رؤية شاملة وواضحة للمستقبل، ومن هذا المنطق يؤكد الباحث على صلة الدين الإسلامي الكبيرة بتأسيس المستقبل والتعامل معه والحكم عليه استنادًا للكتاب والسنه النبوية. ويسهم الباحث في الإجابة على أحد التساؤلات الكبيرة: هل يعد فهم الدين على وجهه الصحيح أحد الأولويات المستقبلية؟ يطرح هذا التساؤل ويؤكد أن دراسته لن تطرق إلى أية فتاوى دينية بل تحاول أن تسهم في تكوين الرابطة الضرورية بين فكرة الإيمان والتسليم والعمل بالدين فعليًا في واقع الحياه. يطرح الباحث في بداية دراسته عدة أسئلة محورية عن التغير المستقبلي الذي من الممكن أن يشهده العالم في كل الفروع التي تمس عميق الانتماء لدى المسلم، فهل حقًا سيتراجع التدين والشعور الديني وما يشكله من أساس تكويني في الكائن البشرى من جراء طرح القضايا التي تمس جوهر القيم الدينية لدى الإنسان، مثلًا كإمكانية تطبيق الخلود الإلكتروني باعتباره بديلًا ملموسًا عن الخلود الذي يبشر به الدين؟ أم إن الحاجة إلى الدين ستتزايد في إطار من البحث عن الانشداد إلى أصول تعطي البشرية قدرها المتوازن والمميز؟ وهل سيعتبر الدين ابتكارًا بشريًا لمحاولة تعليل ما لا يمكن تعليله؟ أو سيبقى اصيلًا جنبًا إلى جنب مع الانتهاض العلمي المستمر؟ هذه بعض من الأسئلة المطروحة من الكاتب والتي تدعو القارئ للتفكير بشكل استشرافي ومستقبلي. يرتكز البحث على المنطلقات الأساسية لمفهوم الاستشراف من منظوره الإسلامي بمنهجيه وصفيه في ثلاثة مداخل رئيسية: المدخل العقدي لاستشراف المستقبل، المدخل الفقهي، والمدخل السنني. يعرض الباحث في بداية دراسته المفهوم العلمي والمنهجي لاستشراف المستقبل، فالاستشراف هو المهارة العلمية التي تهدف لاستقراء التوجهات العامة في حياة البشرية. إن المستقبل هو مجال الفعل الحاضر لدى المسلم واستشرافه لما يرغب في أن يكون عليه مستقبله.ثم يناقش مفهوم الزمن خاصة في الإسلام: فارتباط معظم أركان الإسلام بمواقيت محددة يعطي دلالة على مركزية هذا المفهوم في السلوك التعبدي، فإن الاهتمام بالمستقبل البعيد جدًا يعتبر من أكثر الأشياء الحاضرة في مفهوم الزمن عند المسلم، على عكس مفهوم الزمن عند الباحثين في المستقبليات الذين يجمعون على استحالة إعطاء صورة مستقبلية لأكثر من خمسة عقود؛ نسبة للتسارع الكبير في معادلة الحدث مقابل الزمن، فيأتي المفهوم الإسلامي ليوجه البشر إلى بعد زمني متطاول لا حد لآخره. ويتناول الباحث مسألة استشراف المستقبل انطلاقًا من صائغات الوعى والفكر الأساسية للمسلم وأصول تكوينه الفكري؛ من خلال ثلاثة مداخل يعتبرها أساسًا رئيسيًا في تشكيل نظرة المسلم للكون والحياة والمستقبل، والتي تعد من المداخل المرتبطة بالقدر ومنهم المدخل العقدي بما يطرحه من مُسلمات ذات أبعاد عميقة في تكوين الشخصية المسلمة، والمدخل السُنني بما يفرضه من تفاعل بين الفرد وحركة الكون من جهة وحركة التفاعل بين الماضي والحاضر من جهة أخرى، والمدخل الفقهي الذي يغذي القرار الذي يتخذه المسلم باستصحاب الثابت والمتغير الذي يتداوله المدخلان الأول والثاني. ويقارن الكاتب في المدخل الأول تصور الدار الآخرة والجنة والنار عند المسلم بعملية تصور المستقبل المرغوب والسعي في اتجاهه عند الباحثين في الدراسات المستقبلية، فيشكل الإيمان بالقدر في عقيدة المسلم جزءًا اصيلًا من إيمانه بالمستقبل، ويوضح أن منظور الإسلام للمستقبل يختلف عن أنماط الاستشراف المعروفة لأنه يحدد بوضوح مسارات نهائية قطعية للعالم وللإنسان، لا يوجد بها الاحتمال ولا الشك، وهي التي اخبر الله تعالى بها أو اخبر بها رسوله (ص). ويتفق المستقبليون على أن سؤال الاستشراف الكبير هو: ماذا يمكن أن يحدث؟ ففي المدخل الثاني، يناقش الباحث البعد السنني والذي يقود المسلم إلى بُعد مهم من أبعاد التوقع، ففي إطار تفهم أحداث الكون وقوانينه يمثل الوعي السنني عصمة للمسلم من أن يبنى تصوره للمستقبل على التخيل وهو بذلك يؤسس لذهنية تستشرف المستقبل في أنساق علمية مبرهنة بالتاريخ والواقع. تكمن قوة المنهج السنني في أنه يمثل ذاكرة تنبؤيه للأحداث حيث يتكامل في هذا المدخل البعدان الأخروي والدنيوي في توجيه العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فليس المستقبل أخرويًا فحسب بل يؤسس الشرع إلى أن علاقة الدنيا والأخرة متكاملة في صناعة تصور صحيح للمستقبل.